د.ناديا خوست /قصة لزكريا تامر.

{[['']]}
قصص زكريا تامر الجديدة ـــ د.ناديا خوست
مع زكريا تامر تشعر بالتوتر. لأنه ينبش الظواهر والشخصيات. في عمره الأدبي والصحفي المديد مشى ذهاباً وإياباً مع المثقفين والكتاب والسياسيين، الأحياء منهم والأموات. عرف التفاصيل، نقب وغاص واكتشف. لكنه لم يفعل ذلك كباحث ثاقب العينين بارد القلب. بل كعاشق ملتزم بالوطن، بالحرية، وبالفقراء. لذلك خزن أحكاماً حادة، وساخرة، سلاطة قاسية لاقى بها الظواهر والشخصيات. وحناناً رقيقاً خصّ به الأعزاء الذين يلمح فيهم البساطة والصفاء. ولذلك عرف كثيراً من الناس، اصطفى قليلاً من الأصدقاء. ورغم علاقته الحميمة بالمكان كان بينه وبين المكان تناقض ما.‏
لم يستطع زكريا أن يبقى عند سطوح الظواهر ولو كي يطمئن ويستريح بعض الوقت. فكان يرى في كل شخص يقابل تاريخه ومساره وخفاياه. ولايمكنك إلا أن تتذكر جمله التي توجز الشخصيات، ذاهلاً من صرامته في التعبير، ومن عمقه في فهم الطباع.‏

كان زكريا جامحاً في إدانة الشر والفساد، والضعف والنفاق. ولم يكن يوفر أحداً! لم يكن يشير إلى الجرح، بل كان يضع إصبعه فيه. وربما كانت في إشاراته نبوءة لا نستوعبها، لأنه سبق من حوله في استنتاج نهايات لم تكن بعد مرئية. لهذا نتذكره اليوم ونحن شهود استعراض كبير نرى تراجع كتاب وشعراء من صف الريادة التي لبسوا فيها قمصان الشهداء، إلى الزهو بفتات مكاسب الانحطاط. ونحن نتفرج على احتفال مثقفين بتعميدهم كأبناء شرق أوسط دون هوية عربية. ونسمع صياغات ثقافية تهب صناع المجازر والاحتلال صفة الحضارة والديمقراطية وتضعهم لنا في مكان المعلمين. أمامنا يسقط رواد وكتاب لمح زكريا منذ سنوات طويلة هشاشتهم. لذلك نستطيع أن نضيف التفاصيل التي تسند قصصه. ونقدر اليوم أن سبب حدته أنه لم يكن مشاهداً حيادياً، بل كان مواطناً غيوراً على بلاده. وهاهو يتميز من الكتاب الذين يرتمون في الخرائط الجديدة، بأنه لم يقصر في نقد الواقع العربي والأنظمة العربية، لكنه لم يجعل ذلك مركباً إلى إسرائيل. ولم يجعل إسرائيل هي البديل المستوحى، بل تمنى واقعاً عربياً متيناً وسوياً يواجهها!‏
كأن العالم انقلب كي نقترب من جو قصص زكريا تامر، ونفهم كوابيسها، مرارتها وسخريتها! ابتعد زكريا عن الأرض العربية أكثر من عشر سنوات. زكريا الذي كنا نظن أنه كياسمين دمشق لايستطيع أن يغترب. فهل كان بالغربة يقصد مطلاً يحيط منه بالوقائع كلها؟ هانحن نتبين في آخر مجموعاته "نداء نوح" أنه لم يغادر الوطن!‏
كان زكريا تامر في مجموعاته السابقة ناقداً متفرجاً ساخراً، أو جراحاً. لكنه في هذه المجموعة يرى العرب وسط العالم المضطرب، من مرصد. يحيط بالكارثة مجروحاً، نازف الروح. يقيس الانهيار العميق الذي تسقط فيه مجتمعات وتطوى فيه أوطان. ويرصد التفكك الروحي والأخلاقي في زمن أزمة شاملة، زمن تصاغ فيه الخرائط والبلاد والمجتمعات والبشر بمعايير مدمرة شريرة. لذلك نسمع في مجموعته هديراً هو هدير الانهيار والسقوط. فالفقر في مجموعاته السابقة أصبح جوعاً. والقمع تجاوز ممارسة رجال الشرطة، إلى بنية السلطة.‏
مع ذلك صوته صوت راوية رزين، أو حكواتي في مقهى شعبي. موضوعاته هي المفاجئة. فهو يستقدم أشخاص التاريخ أو الأسطورة المحصنين في الذاكرة العامة، ويضعهم في مواقف جديدة، كمعاصرين، لينزع عنهم حصانتهم. يقلب الأوضاع المألوفة كأنه ينادي: تغير الواقع، لم يعد كما كان، وليس كما أردناه في الظن! وليس الشر قدراً يسقط من الغيب بل هو صناعة بشرية. تجاوز الناس إبليس في الشر! وهاهو يعذب في المخفر! يحاكم، وشهود المحكمة مجرمون يرمون ذنوبهم عليه: القتل، الغدر، الكذب، خيانة الأخ، خيانة الزوج، مهنة الجلاد، الحسد، العجرفة، الذل والنفاق والفجور والسكر. معرض من الشرور الاجتماعية والأخلاقية والسياسية!‏
بشخصيات الأسطورة والحكاية والموتى المبعوثين يرسم الكاتب الواقع: يرحل السندباد.. فيرى الناس يتقاتلون على القمامة، وكل شيء يباع حتى الإنسان. الأصيل منبوذ، للدعي الكرسي، وللفاسد الصدارة، ولا صديق.. تسخر حتى الحمير من حالة البشر! يلتقي كامل الكيلاني بأمل دنقل. ويحكي الشاعر الذي مات قبل الأوان للكيلاني عن كتبه التي رميت مهملة، وانصرف عنها المعاصرون إلى أمور أخرى. لايصدق الكيلاني فساد الأطفال حتى يلتقي بهم فيجمع الكتب التي ألفها لهم ويحرقها. يرمي عباس بن فرناس من أعلى صخرة، لأنه أراد التحليق. وفي رواية أخرى حلق فرأى شعوباً تتقاتل ومشانق وسجوناً وجوعاً ولصوصاً وفساداً. رأى "اللصوص مكرمين والشرفاء منبوذين محتقرين، ورأى الخيانات تعامل بوصفها أحداثاً تاريخية، والصفقات التجارية تنجز باسم المبادئ" فانتخب، واصطدم بجبل فمات.‏
في هذا الواقع لا رومانسية ولا صدق، لا حكايا ولا حب. شهرزاد وشهريار شخصان عاديان، دون غنى أو ملك. شهريار مدمن على المسلسلات التلفزيونية ومباريات كرة القدم. وهو الراوية الذي أمر شهرزاد بالصمت فتسكت "كأي عربي وعربية".‏
جحا مواطن فقير. يحلم بأن يدفن "واقفاً" ليحقق حلمه في الحياة. اعتقل وقت جهر بالحق. فاضطر إلى التملق. بل أعلن أن التفاحة قد تكون بطيخة. وصاغ وصايا لتلاميذه تعبر عن أخلاق الزمن: أن تقبل الإهانة خير لك من الموت.. اصمت واكذب، تغابى وتملق..‏
يالهذا الواقع العربي الذي تتداخل فيه الشرور، فترى الخيانات كأنها سياسة وطنية أو تعبير عن رأي حر! ينبذ فيه الشرفاء ويقتل الأحرار! فيه الجوع، فساد الأخلاق، الشهوة، الظلم السياسي، اعتقال الأبرياء، القتل! كيف يعبر الكاتب عن ذلك دون أن يسدد كلمات واضحة مباشرة! فلنتبين أن المباشرة في الأدب نبتة الزمن! "كلنا جياع. بيوتنا لا ترى الشمس ولا تعرف الهواء. أمراضنا كثيرة. أطفالنا دون مدارس. جرائدنا تتجاهل بؤسنا. السجون كثيرة. السارق يكرّم والمسروق يعاقب". يرى السائح تفاصيل الانهيار: حريقاً هلك فيه آلاف، ورجلاً يقتل زوجته، وبريئين معتقلين، وانهيار بناء، وسيارة جرفت الناس على الرصيف،‏
واغتصاباً تفرج عليه العابرون. صمت وخوف! وفي المخزن العربي عرض كبير.. تباع فيه أميرات وأمراء، أوطان، بحار، أنهار، وزارات، بلاد.. في ذلك المخزن يستعرض البائع وضع المتعلمين ويغري "العاصي" -ويا لاختيار الاسم- بأن يبيع نفسه. لم لا؟ لن يتاح له في حياته المنتجة كلها أن يكسب مايساوي ثمنه! ويبيع العاصي نفسه، ويتبع شاريه منحني الظهر والرأس. لم يتحمل حتى الجمل الصبور هذا الواقع العربي فطار هارباً من تلك البلاد!‏
ينشئ زكريا تامر، ككاتب عميق النظرة، تجليات الفساد: ينقل شخصيات تاريخية أدبية من مكانها وزمانها إلى مكان وزمن آخر. يجعل أبا نواس قائداً للجيوش. فيؤسس فرقة من الراقصات الجميلات.. ويجند الموتى ويستعمل البيض سلاحاً، يكذب ويظلم ويقتل رجلاً فقيراً. يصعق زكريا القارئ ويجرحه بتلك الصور، ويهز ضميره؟ هاهو عنترة العاشق الشهم، بطل الحب العربي، رجل أعمال متعدد الجنسيات، يزن وقته بالمال، يملك خمسة بنوك، يهرب المخدرات. بدل هيأته، وباع سيفه لتجار التحف، رجل مال يرى الحب حكاية تافهة. فياللمسافة بين قصائد الحب القديمة وبين حوار بين عبلة وعنترة ينتهي بالشتائم! أين عنترة العاشق الشجاع من هذا الرجل الذي يزهو بالتهريب والتجارة ويشغله البيع والشراء! وأين عبلة المظلومة من هذه العبلة التي تصطاف في ماربيا! لكننا أبعد من ذلك. فنحن نتجاوز المنطقة العربية إلى مشروع المال الشامل الذي يشتري جمهورية ويرتب انقلاباً عسكرياً ثم يرتب انتخابات "ديمقراطية". "وتخيل عنترة الكرة الأرضية يحكمها جنرالات يأتمرون بأمره وغمرته بهجة عامرة، فما تخيله سيتحقق، فلكل جنرال ووطن ثمن ما يزيد أو ينقص لاعتبارات تتعلق بالعرض والطلب في السوق الدولية". ألا تحيط هذه النظرة الواسعة بالعالم، وتلتقط جوهر أحداثه الجديدة! ولكن هل للماليين العرب فيه مكان القائد أم مكان المنهوب؟‏
دمر الزمان الإنسان! شطره شطرين، أحدهما حي والآخر ميت. الإنسان راغباً أو مضطراً، ينافق، يغش، يلوث حتى ساعات الحب، يسرق أخاه الفقير، يحلم أحلاماً وحشية. يؤذي المحب محبوبه، والأب ابنه، والرجل امرأته. انطفأت الرومانسية! والإنسان باحث عن قطعة ينهشها حتى من لحم أخيه. يصل الفساد إلى درجة قاسية. يفسد الأطفال، ويشترك الأب مع ابنه في اللهو. ويسرق الرجل صاحبته. ويستجيب حتى الآله لدعاء الشيخ فيحرق الأبرياء ويترك أسوأ رجل وامرأة. يرسم زكريا ذلك بتؤدة، بصوت قاسٍ حكيم، مر، هادئ. كأنه هو نفسه لايصدق مايكشفه.‏
لكن زكريا الذي يحيط بالفساد الشامل الذي نخر البنية الإنسانية، يدين الظالمين والمظلومين معاً، الفقراء والأغنياء معاً، أولئك بظلمهم وهؤلاء بخنوعهم! فسد الفقراء الذين كان ينتصر لهم، فسدوا بأحلامهم ونفاقهم، وتزلفهم. وحيث يبدلون مواقعهم يصبحون أشد على إخوتهم من الظالمين السابقين.‏
عدو زكريا في مساره الأدبي كله، القمع والفقر. لكنه وهو يحيط بدمار البشر يرى مسؤولية الإنسان عنه. يستقدم شخصيات تاريخية كي يظهر فداحة الواقع وهزيمة الإنسان. الشنفرى مستعد من الخوف لتبديل حبه وكرهه والتجسس على صديقه، مستعد لتأليف كتب من الشعر تمدح رجال الدولة.. مهتم بأن يدفع له ثمنها بالدولار. في هذا الواقع يبقى جنرالات مثل كليبر، ويقتل رجل مثل الحلبي. ينصرف كليبر مزهواً. ويشعر سليمان الحلبي بالحزن "فسيظهر في البلاد العربية جنرالات كالجنرال كليبر، ولن يكونوا أجانب، ولكن أمثال سليمان الحلبي سيكونون عزلاً، وسيقبض عليهم ويعمدون قبل أن يتاح لهم التسلح بأي سلاح، وسيبقى الجنرالات أحياء". بذلك اللقاء بين الرموز التاريخية وبين الواقع جعل زكريا تامر صورته‏
قاطعة، حادة. فهل نقول: الفساد بطل هذه المجموعة؟!!‏
في قصص زكريا تامر السابقة تجسّد الشرطة القمع. وليس ذلك صداماً بينها وبين بطل سياسي، رغم ملامح بعض الضحايا السياسية والطبقية. ويتناول القمع، غالباً، البريء، يراقب الفكر، وتمارس الوحشية في معاملة المسجون. لكن صفات ضحايا القمع تتضح في قصص زكريا الجديدة. ويبدو جوهر الصدام بين جانبين واضحين، بين الفقراء والمثقفين المتمردين، وبين السلطة. ومصير أولئك الضحايا الهزيمة. لا ينجو منهم إلا بعض متمردين. الدعاة الذين يجب أن يبقوا كي تستمر شعلة المقاومة الإنسانية! لكن الهزيمة ملتبسة، لأنها تبدو كمرحلة فاسدة في حياة المجتمعات، وليست حكماً قاطعاً مؤسساً على اليأس من الجنس البشري.‏
السلطة في هذه المجموعة بنية. توظف تقنين الحرية والقمع في مشروعها الطبقي. يفيد زكريا من شخصية الوزير والملك المعروفة في الحكايا، والحوار بينهما، ويستخدم أرق الملك وجولاته مع الوزير متخفياً، كي يعرض تلك البنية، ويكشف مكان البطانة في ذلك المشروع، وصفات رجال الحكم المطلوبة، ومنبت النفاق والتملق والكذب والقسوة. لايمارس القمع الشرطي، قناع السلطة أو عصاها. بل يمارسه مباشرة وزير وملك. أصبح "الكرز المنسي" عرضاً شاملاً يكشف صفات الملك والوزير ومشروعهما، وعلاقة الحاكمين بالمحكومين، السلطة التي ترفع سيفي السجن والجوع على الناس، تستبعد الأذكياء ذوي الرأي وتستقدم المطيعين، تستخدم غير الأكفاء وتقصي الماهرين.‏
يبلغ زكريا السخرية التي تطرب القارئ وهو يعرض المؤهلات المطلوبة في الحكام والوزراء: وزير الحرب يؤمن بأن الدفاع عن البلاد مهمة الناس وأن مهمته هو الحرب على أعداء السلطان، أو الحرب بالبيانات. مؤهلاته أفلام حربية شاهدها وشجار أمام ملهى انتصر فيه. وزير الثقافة أمي يخطئ في اللغة. وزير التموين يؤمن بفائدة الجوع للشعب. ورئيس الوزراء يرى أن أقرباءه خير من يناسب المهمات والوزارات.‏
تضع تلك السلطة نفسها في مرتفع، منفصلة عن الشعب. يقول الوزير للملك الذي يطلب منه أن يحدثه عن أحوال الناس: "إنهم مجموعة من جهلة، يعرفون مالهم من حقوق، ويتناسون ماعليهم من واجبات. أنانيون. سريعو التأثر بالشائعات، ومن السهل تضليلهم وخداعهم، ويستطيع المغرضون التلاعب بهم... صحيح أنهم جائعون قليلاً، ولديهم القليل من الحرية والكرامة، ولكن هذا الوضع هم وحدهم المسؤولون عنه، فهم يمقتون العمل ويعمل الواحد منهم من الصباح إلى المساء فقط ثم يجلس في المقهى ليثرثر، ولو اشتغل عشر ساعات أخرى لتحسنت أحواله ولشبع قليلاً". يحلم الوزير بشعب لا يأكل ولا ينام ولا يطلب حقوقه بل يعمل! ويقترح جني الضرائب من المواطنين على نور الشمس. يرى أن الموت خير معلم. وينصح الملك: ضع في مركز المسؤولية أشخاصاً تافهين.‏
هل توغل زكريا في الوقائع، في الضمائر والأحاديث، وفي المفردات اللغوية الراهنة كي يرسم تلك التفاصيل ويحبكها في مشروعه العام؟ لذلك قد تبدو مجموعته شهادة على الزمن! التقط خصوصية السلطة في العالم الثالث، خصوصية تميزها عن السلطة في البلاد الصناعية. فمن سماتها أنها تطلب غير الكفء، لا الخبير، والمتملق لا المخلص المجتهد، وتقنن الحرية حتى حدودها الدنيا! وأن هاجسها البقاء في صورة جامدة واحدة. لذلك لاتستخدم الحرية بل تقننها، ولا تضع برنامج الاقتصاد، ولا تفيد من حيوية تغيير‏
الأشخاص. يقول الوزير: الأخطار كثيرة ومتنوعة، ولكن أشدها مواطن لاينافق ولا يداهن ولا يغش ولا يكذب.. وينصح الملك: ضع يا مولاي في المناصب المهمة الخطيرة أشخاصاً تافهين منافقين مزيفين أدعياء. وينفذ الملك ذلك. لكنه يعلن: "قررت ألا أترك الكرسي الذي أجلس عليه إلا حين أجد الخطة الكفيلة بتحسين أحوالكم". خطة لن يجدها!‏
في أكثر من قصة تشغل زكريا تامر مسألة السلطة أو النظام. ويجرنا لنتبين أن النفاق والقسوة والظلم ليست سمات أخلاقية بل موقف أساسي في البنية. فالوزير المنافق الذليل الغشاش الغدار هو الذي ينطق بحاجات أمن الدولة.‏
يتبارى الوزراء في التحريض على ابن المقفع. حتى كأنهم يستجدون عقابه بأمر المنصور! يقول الوزير: ماهو عمل الحاكم الصالح؟ أليس عمله التفكير بدلاً من الناس الذين يحكمهم؟ إذا تعود الناس التفكير فلن يحتاجوا إلى حكامهم! ويقول ابن المقفع: الإنسان الذي لايفكر أقل منزلة من الحيوان. يستطيع المنصور أن يقتل ابن المقفع، لكنه يجد الحل الأفضل: يجعله كاتباً عنده. "أحس ابن المقفع بأنه سجين في غرفة بلا باب ونوافذ". أهناك تبدأ أزمة المفكر مع نفسه؟ ويتراجع دور الكلمة في الثورة على الظلم؟ وجد المنصور أحد الحلول في العلاقة بين المثقف والسلطة: من يرغب في التفكير كما يحلو له. التفكير ليس ممنوعاً مادام السيف أقوى، وأنا الذي يملك السيف!‏
يتوقف زكريا عند علاقة السلطة بالمثقف. يصوغ ملاحظاته عن المثقفين والكتاب في مخطط عام عن مسألة الحرية في عالم عربي مؤسس على علاقات العشيرة برأسها، والفلاحين بالإقطاعي، وعلى مهمة ترويض الثقافة بأساليب منها تقديم المطيع على الموهوب. وأثر ذلك في الكتاب والثقافة. يرى الملك أن الشعر والأدب غير ضروريين. فالكتاب نقادون. "كل صاحب موهبة هو متعجرف مغرور، وإخلاصه الوحيد لموهبته التي تجعله يحس أنه واحد من الخالقين. والأديب الذي يجرب متعة أن يحبه الناس، لاشيء في الدنيا يعادل متعته. أريد أديباً صغير السن غير معروف، أربيه كما أشاء. يخلص لي ويطيعني طاعة عمياء، ويحس في كل لحظة أني رب عمله الأوحد". لكن طرد الكتاب يخلق مشكلة. الحل؟ يصدر الكتاب الموهوبون إلى البلاد التي تطلبهم. والحل الآخر: يؤسس الملك مصنع أدباء تافهين: "نشط المعمل وانقض الأدباء الجوف الخانعون لأولي الأمر على مدن الكرة الأرضية وقراها، فإذا هم المهيمنون في كل زمان ومكان، وإذا الأدباء أصحاب المواهب مرغمون على الانزواء أو الصمت أو الانتحار أو الكتابة المتحدية التي تخسر مئات المعارك وتربح معركة واحدة". لذلك يقول الوزير: "رجال العلم والأدب في البلاد كلهم رهن إشارة من مولاي". ويقول الملك: "أعرف سلفاً كل ماسيتحدثون عنه. وأعرف نظراتهم البلهاء الباحثة عن خزائني".‏
يرسم زكريا في هذا الكابوس سحق الروح! يخرج المعتقل البريء من "السجن العربي" فيمدحه. ويمدح المحققين. حتى يبتعد الناس.. وعندئذ يمشي على قدمين نازفتين ويقول: الدنيا نذلة وإلى كل نذل تميل! وكان يرتجف وهو يحاول أن ينسى مامر به خلال التوقيف. يضرب كافور المتنبي حتى يئن ويبكي ويقبل أن يمدحه! تحقق الشرطة مع الشنفرى بأساليبها المعتادة، فيقبل مدح الوزراء، ويقبل أن يكتب تقارير عن صديقه تأبط شراً ويسأل عن الثمن الذي سيتناوله من ذلك وبأية عملة! فمن انتصر على ذلك الركام؟‏
ينقب زكريا في علاقة السيف بالسلطة حتى في رموز البداية. عاش الناس سعداء حتى أتى غريب أخضعهم بسيفه. من الضيق سرق شاب السيف وركض ليرميه في النهر. ثم تردد، واستعمله فكان أشد على أهله من الغريب. ثم تكاثر سارقو السيوف والعبيد. هل قصد زكريا أن الحاكم المحلي أشد من الغريب على شعبه؟ أم قصد التنبيه إلى أصول الحاكم، وأحلامه أو وعوده بالدفاع عن العدل قبل أن يملك السيف؟‏
لكن زكريا لايضع التساؤل في صيغة بسيطة. بل يعبره إلى استنتاج يشغله. فنسمع أصداء قصته الكرز المنسي: عندما يصبح الفقير ملكاً، أو عندما يملك الجندي البسيط السلطة، يسلب وينهب ويبطش.‏
حطت الحمامة على كتف رجل فقير فاختير ملكاً. لم يحقق حلم الفقراء بالعدل. نام فوراً وترك السلطة لكلبه. تظهر المقابلة التلفزيونية والإعلانات والتصريحات العسكرية والتربوية والفنية والصحفية. مشروعه: استهلاك الجماهير في العمل، والتلويح بالأعداء. ويبدو السباق على النفاق للكلاب، وتتبدل الاصطلاحات اللغوية. تتغير المعايير والشعارات وقصائد الغزل لتناسب كلب الحاكم. فتؤكد سمة حكام العالم الثالث الذين أتوا من أصول فقيرة، واستنبتوا شرائح من المنافقين من شعراء ومثقفين، ليست في مستوى بنية فوقية مبدعة تعبر عن نظام اجتماعي، بل كحاشية سوقية غير موهوبة من الخدم. يسخر زكريا في مرارة من الفقراء الذين نسوا أصولهم. الكرز المنسي!‏
يتناول زكريا تامر تلك المسائل من مطل مشرف. لا يستر بل يكشف. ينبش، يفك الخيوط ثم يعرضها. لم يكن زكريا من قبل في مثل هذه الحدة! لايهاب جرح القارئ، وهل يوجد جرح بعد الأحداث الراهنة التي أباحت الخيانة، ونقلت المشروع العربي من التحرير إلى توطين العدو، فدمرت مابنته الأجيال السابقة وأنجزت الكبائر!‏
ولكن رغم الطوق لايتوقف الحلم. يصل الملاحق إلى بيت فقير وسخ في حي مهترئ. فهي امرأة سوقية بصراحتها، غير مهذبة، لكنها واعية فقرها وغبنها، ويبدو الرجال الذين يعتقلون الملاحق أنيقين. لكن صور التعذيب التي يرسمونها له، وابتزازهم نقوده تبين المسافة بينهم وبين المرأة الفقيرة، خستهم وبساطتها. لايخيف التعذيب المتوقع الرجل المعتقل. يدفعه إلى الهرب أنه: يخشى سخرية الجلادين منه إذا رأوا جوربيه ممزقين! كرامة الفقراء الذين يسترون يؤسسهم، ويتميزون عن المتسولين الذين يستمتعون بعرض فقرهم! لكن مايستوقفنا هو الحلم! لايصده البيت الفقير وجلافة المرأة التي تسخر من الملاحق ومن أصحابه: "مساكين أنتم ومضحكون! تريدون تغيير العالم؟ هيا عجلوا قبل أن نموت كالجرذان!" يتجاوز الحلم الحاضر مندفعاً إلى المستقبل.‏
أغمض الملاحق عينيه "وأبصر بشر الأرض يدبون على أربع تطاردهم سياط وصرخات حيوانية، وأبصر جده يقطع رأسه ويسلخ جلده ويحشى تبناً، وأبصر أباه يبكي بينما فوهة مسدس تلتصق بصدغه وينطلق منها النار، فارتجف وتقلصت أصابعه حول مقبض سكين وهمية، وأبصر آلات تمحو بيوتاً عتيقة وتبني بيوتاً جديدة شبيهة بأشجار خضر في حقل فسيح يغطي أرضه ورد.. وأبصر رجالاً يضحكون ونساء يضحكن.. وأبصر سجوناً تهدم ومشانق تحرق.. فغمرته غبطة عارمة منحته قوة مفاجئة دفعته إلى النهوض واقفاً، ونظر بإشفاق إلى المرأة المستلقية على السرير وغادر البيت.." كأنما ينبت الحلم في الحي الفقير، في البيت الفقير، لكن رحابة الوعي تقود الحلم وتنجو به. وليست النجاة هي الانتصار. بل القدرة‏
على حماية الحلم. هكذا يهرب المطارد من طرفين، من البيت الفقير والمرأة الجلفة النائمة، فيه، ومن الرجال الذين يلاحقونه. يهرب كي ينجو بالحلم! ويذكرنا ذلك بملاحظة تشيخوف في العروس وفي بستان الكرز، وبملاحظة دستويفسكي: أفكار العدالة ممن يحملها!‏
في صوت زكريا تامر في هذه القصص الأخيرة حزن عاجز، غضب، رفض، ودعوة إلى التمرد. وكأن بعد زكريا عن الوطن العربي أتاح له أن يلم بصورة واسعة. ارتعش من هولها فلم يستبق في نفسه كلمة أو صرخة. مم يخشى؟ وهل توجد كارثة أكبر من الكارثة التي يعيشها العرب اليوم! يرفض حتى الجنين النبل والحكمة والعقل والعلم. لن يكون شجرة بل فأساً، سيزرع الشوك لا الورد، سيعيش دون قلب، معتداً بجهله فخوراً بالغضب عليه. كأن هذا الطاغية الصغير راقب هزيمة المعايير القديمة فاندفع إلى الجانب الآخر! أو كأنه جنين الواقع، ونبتته الجديدة!‏
في قصص زكريا تامر الجديدة تتكرر موضوعاته السابقة: اعتراف البريء بأنه مذنب، الاغتصاب، الاعتداء، الثأر، مثل الشرف الشرقية، والسجون، والتعذيب. لكن قصصه الجديدة تتميز بالصدام، بالجوع والهم اليومي المعاشي، بالفقر الذي يشير إلى حقيقة جديدة تحيط بالعالم الثالث كله. ببرنامج للأرض العربية، وبحركة شرائح اجتماعية جديدة. والقارئ شريك في ذلك الصدام. لايتفرج على الفساد، والظلم، والخيانة، بل يعيش ساخراً ومتألماً في الكابوس الذي يرسمه الكاتب. ولا سكون! كأننا عشية تبدل شامل. فالملك نائم وصاح في وقت واحد. يأرق، يرى في حلمه الحصان الأسود المتمرد. لاتغير الهواجس مشروعه، بل يزيد من الضرائب والمشانق. والفقير يحلم بالحرية والسعادة. جانبان، نقيضان، مشروعان! والسؤال: متى يحدث الانفجار؟‏
يخرق زكريا بقصصه الأخيرة إذن الردة التي يناقش فيها اليوم دور الكاتب والالتزام! بل يجيب من تصور أن سقوط الأنظمة السياسية يسقط المعايير الثقافية العريقة التي جعلت الكاتب كشاف الحقائق، صائغ المثل، صاحب المشروع الواسع! زكريا، في هذه المجموعة كاتب سياسي وطني في زمن يحرق فيه كتاب معروفون المصطلحات القديمة والموضوعات المركزية، هائمين في فوضى العالم الجديد، أوباحثين عن فتاته وأكاليله. زكريا شهادة على أن الالتزام بالمسائل المركزية يوسع المخطط الفني‏
شارك الموضوع ليراه أصدقائك :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
إتضل بنا | فهرس المدونة | سياسة الخصوصية
جميع الحقوق محفوظة لموقع شبكة أجداور
Created by Maskolis Published by Mas Template
powered by Blogger Translated by dz-site