أنقذوا أسامة / قصة بقلم شروق محمد

{[['']]}
" احتكر العالم حروف الرزق بقسوة ، تواطئ مع الفقر وترك الجوع هو رغيفُ ما نقتاته .
طفولتنا دُهِسَت تحت عجلات الفاقة حتى انصهرت ملامح صبانا ،
حتى ارتدينا الخشونة واجهةً لنا كي نحيا دون إهانةٍ للقمة عيش ، دون انكسارٍ فائض فقد تزاحمت في أفئدتنا الهزائم .
ذعرٌ يهوي بنا لقاع أرواحنا ، نختبئ ، ننزوي كي لا تلحق بنا مخالب الظلم والحاجة ، نرتعب من فكرة الموت ... الموت جوعاً !

نفيقُ من هلوسات أحلامنا – ولقلة حيلتنا – نتبع قلوبنا الغبية ظناً بأن أعمدة إنارات ٍستلوحُ من آخر الدرب .
نتحسس الجدران في الظلمة ، نزحفُ بإرتجاف معداتنا الخاوية ، علينا حث الخطى فحسب وسنصل ... لكن كل ما نحصل إليه هو مزيدٌ من أصفاد خوفٍ تزجُّ بنا لهاوية نجهل خباياها ، وهذا ما حدث لي وببشاعة !
لم أدرِ أن العالم جحيمٌ مستعرٌ برداء فردوسٍ مُخضَّر ..؟!
لم أعلم أن حديقة الأزهار التي رأيتها ستكون مُدججةً بألغام تنسفُ أرواح البشر ..؟!
مواسم الربيع توقفت عندي في السابعة عشرة ، واستأنف الخريف رحلة عمري المضنية .
كانت آخر سنةٍ لي من الثانوية حين تركتُ المدرسة وراء ظهري وغصت في غياهب العالم باحثاً عن عمل ..
_ بما سينفعني طفلٌ في السابعة عشرة ..؟!
ترددت الجملة هذه على مسمعي كثيراً ، ضعف الحال يُحتِّم علينا القبول بأي وظيفة ٍتُعفينا من مدِّ أيدينا للناس ، ويا لمرارة الشعور حين يكون مصير لقمة عيشك بيد
بشر ..
مزقت الحياة جدار كرامتي وجعلتني أتذللُ لأصحاب العمل والتجار كي يُعطوني عملاً ما ... وهنا يُثبتُ لك بشاعة البعض في استعباد موظَفيهم !
عيناي ذابلتان وشفتايّ متقشفتان من كثرة البحث والتنقل دون وسيلة مواصلات ، جسدي هزيلٌ وروحي مهترئة و يائسة تترنحُ بسُكرٍ فقير ..
كانت الحياة مُصعِّرةً خدها عني ولم تعطي طفلاً أحمقاً مثلي ما
يتمناه ، لكن يومها اعتقدتُ الحظ حليفي حين التقيت به ..! "
" رجلٌ في الأربعينيات ، مهندم اللبس وتبدو عليه علامات الثراء .. تقدم مني وأنا ملتحفٌ زاوية مطعمٍ أقضمُ كسرة الخبز لترتق معدتي من الأنين !
جلس محاذياً لي ، قدَّم لي كوب شايٍ بالحليب وشطيرة لحمٍ كبيرة .
توجستُ منه بدايةً لن أنكر الأمر .. لكن الجوع تغلب عليّ وانقضَّ بشراهةٍ يأكل كل ما قدمه !

تأملني بصمتٍ حتى فرغتُ من أكلي ، ثم بدأ حديثه الموزون وكأنه قد تدرب عليه مئات المرات .
أخبرني أنه يراقبني منذ مدة وأنا أبحث عن عمل !
قال أنه بمقدوره إعطائي مبلغاً من المال
يُمكنني من العودة لدراستي ، لكن لعزة نفسي بأني لن أقبل منه صدقةً آثر بإيجاد عمل
ٍ محترم لي ..
أخذتني العزةُ بأن كرامتي لا زالت باقية وأن ذاك الرجل شعر بها ، قال لي بأن العمل يقتضي مني سماع الأوامر دون اعتراض ، دون حشر أنفي في ما لا يعنيني !
لم أكترث لأيٍ من هذا ، كل ما لامس وجداني هو أني وجدتُ عملاً عوضاً عن الإهانات الغفيرة التي اتخمتُ منها !
أعطاني عنواناً لمنظمةٍ إنسانية وأخبرني عن الراتب الذي سيكفلونه لي حسب عملي .
قام مغادراً وهمس لي بترقب :
_ استمع لكل ما يقولونه لك ولا ترفض أي شيء كي تضمن مدخولاً مناسباً لك ...
لم أعبأ ب شيءٍ آنذاك سوى أن الفرحة تملكتني بانتشاءِ تائهٍ وجد دربه . عرجتُ للمنزل وجهزتُ ملابسي ولم أستطع النوم من شدة تفكيري بأني لن أتذلل لأحد ولن تضطر أمي للعمل خادمةً لدى منزل أيٍ من أولئك المتعجرفين .
حزمتُ ما تبقى من كرامةٍ لدي وأعدتُ ترميمها !
ها أنذا سأعمل لدى منظمة ٍمرموقة ولن يجرؤ أحدٌ على نعتي بالجبن وقلة الخبرة .
توجهتُ باكراً في الصباح أسابق تغريد الشمس من الأفق، اشتهيتُ نظرةَ فخرٍ من أبي تُربِّتُ على خفقاتي المضطربة .
دمعت عيناي حين مررتُ بجانب مقبرةٍ تحتضن عظامه وحثثتُ الخطى بوجعٍ دفين ..
وصلتُ في الوقت المحدد واستقبلني ذاك الرجل ... مرت الساعات الأولى من العمل برتابة بالغة !
كنتُ أنقل ملفاتٍ وأرتب بعضها في أرشيف المكاتب ، أُحضّر قاعات الاجتماعات وأُهيّئ الجو لأي اجتماعٍ مترقب .
لم أملّ ، كلما تذكرتُ أني مستورٌ في عملٍ كذاك حمدتُ الله واسترسلتُ في عملي برضاءٍ تام .
لم أكن أسأل عن أي شيء كما قال لي ذاك الرجل ، لكن القدر شاء بإقحامي في ما لا كنتُ أطاله !
تعثرتُ ووقعتُ أرضاً وتناثرت الملفات بأرضية القبو ، هرعتُ أُلملمها خوف أن يراني أحدٌ وأتلقى توبيخاً من رئيسي ..... وهنا كانت الفاجعة التي أخرست نبضات قلبي ...!"

 " شهِقتُ بصمتٍ حين رأيتُ مجموعةً من الناس معصوبةٌ أعينهم ودمائهم تسيحُ في الأرض ب غزارة .
كمّمتُ فمي بباطن كفيّ ، اصطبغت الدنيا أمامي بالظلام ، انكمشتُ على نفسي ، رعشةٌ دوت بجسدي وقضقضت ضلوعي بشراسة .
ابتلعتُ ريقي ، مبتلاً بعرقي قلَّبتُ صفحات ذاك الملف والملف الآخر والذي يليه ..
يا الله ، عربد الشيطانُ أمام عينيّ متبجحاً بصفاقة .
أعملُ في منظمةٍ إنسانية لـ
... لـ قتل البشر !
منظمةٌ ارهابية ، كل معلوماتهم تقبعُ بين يديّ ، حسابات بنوكهم ، عملائهم ..أم علي القول مرتزقتهم !
أنفاسي لاهثة ، أناملي ترجِفُ من الخوف ، قلبي يشمئزُ منهم .
ذهولٌ يفتكُ بكل خليةٍ تسكنني ،
هل أصمتُ وأُداري كل شيءٍ وراء ظهري وأدعهم يواصلون سفك الدماء تحت مُسمَّى الانسانية ..؟!
أم ما علي فعله ... !!

ما بوسع طفلٍ في السابعة عشرة فعله أمام جبروت وحوش ٍبشرية ..؟!
عدتُ للمنزل بخمولٍ صاعق ، شهيتي للحياة اختنقت ، تمنيتُ الموت ، كيف الهرب ، إلى أين المفر ..؟ !
إن انسحبتُ بعد مُضي شهرٍ فحسب سيشكون فيّ ويُلحِقون الأذى بعائلتي ، لم أملك في هذه الدنيا غير أمي وأختيّ التوأمين ،
لم يصلا لسن العاشرة بعد !
استفرغتُ جُلَّ أحاديثِ نفسي في سجودي المتمرِّغ بإنكسارٍ مهيب ، شاخت روحي وشيَّع قلبي جثمان ضميري لمقبرةٍ لا نهاية لعمقها .

استأنفتُ العمل هناك محاولاً إخفاء ذعري وامتعاضي ، كلُ اجتماعٍ كنتُ أُجهِّز له كنتُ متأكداً أني أساعد في إبادة قائمةٍ من الناس كـ إزالةِ حفنة حشائش ضارةالتصقت بقعر الكون .

ليتني تسربتُ من بين عقارب الزمن وعدتُ لزاوية ذاك المطعم ،
أُقسِمُ أني كنت ُسأهنأُ بكسرة الخبز تلك دون اعتراضٍ على شيء ....
أماه طفلكِ يتمزقُ ألماً !

مرَّتِ الأشهر الأولى ببجاحةٍ أمام عينيّ جارفةً معها أرواح أبرياءٍ تلطخت روحي بدمائهم .
كنتُ تلميذاً نجيباً ، أُطيع سادة الشيطان دون النبس ببنت شفاه . حاولتُ مراوغتهم بادئ الأمر بأني طفلٌ لا يفقهُ شيئاً سوى ملءِ معدته بالطعام ، كنتُ أتملَّصُ كلما اقتربتُ من مديرهم كي لا أبوح بإسمي كاملاً وأُعرض حياة أسرتي للخطر .

" أسامة " كان الاسم الذي يتردد في الانحاء !
أسامة كان طفلٌ غبي بالنسبة لهم ، يكادُ يكتب أحرف اسمه بصعوبةٍ بالغة ، هكذا أوهمتُهم بأني لم أدرس سوى بضعة صفوفٍ إبتدائية وأجدُ الكتابة والقراءة معضلتين كبيرتين .
يبدو أن الحيلة انطلت عليهم ولم يكترثوا بسؤالي عن مسقط رأسي أو من هي عائلتي أو ما شابه ، بل ائتمنوا عليّ بنقل ملفاتهم بالغة السرية مع أحد معاونيهم نحو قبوٍ احتضنت أوراقه صور المئات بل الالاف من الأرواح التي ذُبِحَت وقُتِلَت دون وجه حق .

الشهر الخامس من عملي القبيح ، وضعتُ خطةً داميةً في رأسي .
قلتُ لأمي أني لم أعد أعمل في المنظمة تلك ، وأني وجدتُ عملاً آخراً كأجيرٍ لدى صاحب تجارة .
نجح جزءٌ من خطتي في إفراغ رأس أمي من أي علاقةٍ بالمنظمة ولحسن الحظ أنها لم تكن تعلم في أي مكانٍ تقع المنظمة وما اسمها .
توجهتُ في الأيام التي تليها و مزقتُ بضع أوراقٍ مهمة من كل ملف ، أوراقاً تُثبت إدانة المنظمة في أكثر من خمسين عملٍ إرهابي .
أخفيتُ أخطر معلوماتهم عن حسابات بنوكهم والأشخاص المتورطين معهم . صنعتُ ملفاً متكاملاً عن تاريخ إنشاءِ المنظمة ودوافعها وغطائها الإنساني الكاذب التي احتمت به ...!"
" لم أستطع جمع كافة المعلومات في أسبوعٍ واحد !
كنتُ أفعل هذا كلما سنحت لي الفرصة بهدوءٍ ودون شعور أحد .
لمدة شهرٍ استفرغتُ فيه جُلَّ طاقتي في التظاهر بالقوة والثبات أمامهم وبداخلي كان يضمرُ شيءٌ كلما غصتُ في عالمهم أكثر .

حين انتهيتُ من كل تجهيزاتي هناك ، أدركتُ أنه لا مفر من تنفيذ آخر جزءٍ من خطتي .
كانت حياتي ستكون رهن حكمهم بلا شك وشعرتُ أني لن أحتمل رؤية المزيد من الدم الطاهر تُستباحُ حرمته بلا رحمة ولا شفقة .

جاء يوم عطلتي ، جلستُ مع والدتي وأختيّ بعد أن ابتعت لهم غداءً شهياً جنيتُ كل ريالٍ منه بعرق جبيني - في تحَمُّل الحجارة لمدة ثلاثة أيام متواصلة .
مالُ المنظمة لا يقربُ للمال الحلال بصلة لذا آثرتُ بجمعه ليكون جسراً يصلني بنهايتهم .
أرسلتُ ليلتها رسالةً طويلة لخالي الذي يقطن بالريف وأوجزتُ له بكل شيءٍ شرط أن لا تعرف أمي بشيءٍ حتى لا يتعرضوا للخطر .
ائتمنته على عائلتي بدمعٍ ثخين ، ثم أرسلتُ الملف الذي جهزته لعدة جهات أمنية عالية الشأن ، قريباً ستكتشف المنظمة أن الملفات ناقصة و سُتحيطُ بي -دون غيري - أصابع الاتهام !
انبلج فجرٌ جديد وبزغت نهايةٌ موشِكة لوحوشٍ بشرية ضارية ، وانتهت عند مأذنة صلاة الفجر حياة طفلٍ كان اسمه " أسامة " ...
من يُنقذ الأطفال من بعد أسامة ، سؤالٌ يرنُّ صداه من أصقاع روحِ طفلٍ زهِدَ بحياته في سبيل البوح بزئير أفاعٍ ظنُّوا أنهم أسودٌ في غابةٍ مظلمة ...!"
أنقذوا أسامة قصة لشروق محمد؟

شارك الموضوع ليراه أصدقائك :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
إتضل بنا | فهرس المدونة | سياسة الخصوصية
جميع الحقوق محفوظة لموقع شبكة أجداور
Created by Maskolis Published by Mas Template
powered by Blogger Translated by dz-site