جمعهما الحب و فرّقهما الموت / قصة لنور العلا.

{[['']]}
ربما تبدو للبعض أنها قصة مكررة لا جديد فيها ، و ربما يصنفها البعض الآخر بقصص الخيال و ذاك لنُدرة الحب الذي جمع بين بطليها .. بيد أن قصتنا حقيقية بشهادة أحد من شهدوا تفاصيلها .
( سناء ) و ( علي ) جمعت بينهما سنوات الطفولة و أيام الصبا الأولى ، ولحظات اللعب البريئة حينما كانا يقطنان في نفس الشارع .
كان قدراهما قد ارتبطا منذ اللحظة الأولى لخروجهما لنور هذه الحياة ، كان مكتوبا أن يكون مولدهما في وقتين متقاربين لينشأ سويا و يكبرا معا ويعيشا ظروفا واحدة في بيئة واحدة ، ليجعلهما كل ذلك أكثر قُربا لبعضيهما .. رغم الفارق المادي الذي كان عاليا في شكله هامشيا في نظريهما .

في طفولتهما المبكرة كانت هي شريكته المُفضلة وكان هو فارسها و حاميها من مضايقات رفاقهما الأولاد والبنات .
كبرا لتكبر تلك المشاعر فتغدو اهتماما من نوع آخر يميزه البراءة التي كانت لاتزال محتفظة بها تغلف علاقتهما و تمنحها ذلك الطُهر الذي طغى على علاقتهما منذ نشأتها الأولى .
استمرّ ما بينهما خفيّا لا يعلم أحدهما بما يحمل الآخر ، حتى قرر هو إعلانه بشكل رسمي ليتقدم لخطبتها وبمباركة الأسرتين تتم خطبتهما ليتبعها عقد القِران بعدها بأسبوع على أن يتم الزفاف بعده بعام .
كانت الأيام التي تلت عقد القِران أجمل ماعاشاه ، استعدادات حفل العرس ، تحضيرات منزلهما الذي سيشهد بداية جديدة لحبهما ، تجهيزات العروس من ملابس وملحقات لا تنتهي .. كل ذلك كان يشكل لهما سببا للسعادة بخلاف سعادتهما في اجتماعهما أخيرا .
كانت الأيام تمر سريعا والموعد الميمون يقترب و
، لكن السعادة التي ظنا أنها لن تفارقهما قررت الإشاحة بوجهها عنهما .
كانت سناء تشكو من التعب المفاجئ رغم عدم بذلها لمجهود كبير أحيانا و الذي كانت تعلله بانشغالها بترتيبات العرس وتفكيرها المتواصل به و الضغط العصبي والقلق الذي يرافق أي عروس قبيل زفافها مع كل يوم يقترب فيه الموعد .
حتى جاء ذلك اليوم الذي سقطت فيه مغشيا عليها لتنقل إلى المشفى وهناك تكشف الحقيقة المفزعة للجميع .
يخابر أبوها عليّا ليصل إلى المشفى و قلبه يكاد يتوقف عن النبض ليخبره والدها بالأمر المؤلم لينزل على رأسه كالصاعقة .
_ سرطان !! ما الذي تقوله ؟! لا يمكن أن يحدث ذلك .. مستحيل . لقد كانت بخير عندما حادثتها البارحة، لالا بل اليوم صباحا حادثتها واتفقنا أن نذهب سويا لنختار ألوان طلاء غرفة المعيشة !
لم يكن بها شيء على العكس كانت فرحة و متحمسة جدا واتفقنا أن آتي لأخذها عصرا .
_ يا بني لا أحد يعلم ما سيحدث له بعد ثانية واحدة ، ثم إنها كانت تشكو منذ فترة من تعب شديد لكننا لم نلقِ له بالا حتى هي لم تهتم له كثيرا .
_ تعب ماذا ؟ ولماذا لم تخبرني ؟ أو يخبرني أحدكم ؟! ألستُ أنا المعني بمعرفة ما يحدث لها ؟ ألستُ الأَولى بأن أكون بجانبها في تعبها ؟
- يا بني كان تعبا عارضا لم يكن مستمرا .. صحيح كان يداهمها يوميا لكننا فسرناه بإرهاق التحضيرات وهو ما يصيب أي عروس لذا لم نُشِئ أن نشغلك بأمر كهذا .
همّ علي بالرد لكن خروج الطبيب في تلك اللحظة جعله يتجه إليه ليسأله عن تفاصيل حالتها .
_ حالتها تأخرت كثيرا لكننا سنفعل لها اللازم . لا تيأسوا الأمل بالله أولا و أخيرا .. فقط عليكم بالصبر والدعاء لها و تشجيعها و الرفع من معنوياتها ، لا تدعوها تراكم بهذه الصورة و على هذه الحالة .
كان وقع كلام الطبيب على أسرتها و علي تحديدا كالصاعقة ..أُصيب بعدها بحالة من الشرود والضياع فوقع متهالكا على أقرب كرسي وهو يكاد يفقد وعيه .
جاءت الممرضة لتخبرهم أن بإمكانهم الدخول لرؤيتها بعد أن استعادت وعيها فسارع الجميع إلا هو ظل في كرسيه وكأنه لا يشعر بشيء من حوله ولا يدري عمّا يتحدثون .
_ أبي هل أخبرت علي ؟ أتمنى أنك لم تخبره .. لا داعٍ لذلك ؛ فأنا بخير كل ما هنالك إرهاق و سينتهي حالما آخذ قسطا من الراحة .
_ يا بنيتي لا ترهقي نفسك بالحديث الآن .. ارتاحي فقط .
_ ماذا هناك يا أبي ؟ هل لهذا الحد أنا مريضة ؟!
نقلت بصرها بين أخواتها وأمها تستفسرهم وتقرأ وجوههم علّها تتوصل للإجابة .. كانت ترى قلقا تكتسي به ملامحهم و حزنا تكاد تنطق به أعينهم لكن شفاههم كانت تحاول إخفاء ذلك خلف ابتسامات مُتعبة عجزت عن أن تطمئنها .
عاودت سؤالها مرة أخرى و قد بدأت الشكوك تساورها والقلق يتملكها ، لكنها أيضا لم تجد ردا لسؤالها الذي كاد أن يقتلهم قبل أن يقتلها .
صرخت في أخواتها لعلّ إحداهن ترأف بحالها فتجيبها لتنهمر الدموع من أعينهن في نشيج مؤلم يُمزق القلب .
تبدأ قليلا باستيعاب ما يحدث لكنها مازالت غير متأكدة من ظنونها التي تأكل رأسها و تحرق قلبها .
تنادي ( علياء) أصغرهن لتقترب منها لتسألها بحنان فتجيب و صوتها منخنق بالعبرات : سرطان .
تهاوى السقف حينها على رأسها بما يعلوه من طوابق و يحمله من بشر .. شعرَت وكأنّ هناك شيئا ثقيلا جاثما على صدرها يمنعها من التنفس و يحبس الزفير فيه .
كان تريد الصراخ أو البكاء لكن ذلك الشيء الثقيل كان ضاغطا حتى على حنجرتها و كأنه يَدين ممسكتين بها بقوة و شدة .
لم تتمكن سوى من تحريك يديها في الهواء منادية أمها و أبيها تستنجد بهما فيهرعا إليها لتفقد وعيها مجددا .
على ذاك الكرسي خارجا كان علي لايزال جالسا مذهولا لا يستطيع تصديق ما سمعه بل ولا حتى استيعابه .
وهو على حاله تلك تخرج علياء مسرعة وهي تصرخ باحثة عن الطبيب فيستفيق من شروده على صوتها فزعا والرعب قد استبد به خوفا من أن تكون قد .... لم يستطع تخيل أن تكون تلك النهاية تحرك مسرعا نحو غرفتها ليجدها مغشيا عليها بيني يديّ والديها و قد شحب لونها كالأموات .
يخرج كالمجنون يبحث عن الطبيب وهو يشتم ويلعن المشفى و جميع من فيه حتى يرى الطبيب قادما مسرعا باتجاهه متقدما اياه نحو الغرفة ليأمر جميع من فيها بالخروج عدا الممرضتين التي كانتا برفقته .
مرّ الوقت بطيئا لكأنه ساعات من الانتظار البغيض الذي لا يخفف حدته شيء .. ليخرج الطبيب بعدها ليطمنئنهم بأن حالتها استقرت لكن يجب الابتعاد عن الانفعالات مع ضرورة البدء في علاجها سريعا ليوقفوا انتشار المرض في بقية أنحاء جسدها .
لكن حالة أسرتها المادية بسيطة جدا وتكاليف علاج مرض كهذا مرتفعة جدا .
اغتم الأب لسماع ذلك فمن أين له بكل تلك المبالغ التي سيتطلبها العلاج وهو فقير الحال و لديه أسرة يعولها و ليس هناك من يمكنه أن يتدين منه فجميع من يعرفهم بنفس حالته ، حتى و إن لقي من يعطيه فمن أين سيرده له و متى ؟
لكن علياً الذي يعلم جيدا حال أسرة سناء يقرر التكفل بجميع مصاريف علاجها بينما يحاول الأب المفجوع على ابنته الاعتراض فهي ماتزال ابنته وعلاجها واجب عليه هو ، لكنه يُصرّ و بشدّة فيمتثل الأب بيأس وامتنان لزوج ابنته المحب .
تبدأ سناء رحلة العلاج والعذاب بين يأس قاتل و أمل ضعيف يُبقيها على قيد الحياة .
كان إيمانها بالله قويا ، لكنها في ذات الوقت كانت تشعر بأن نهايتها اقتربت و أن لا أمل لها بالحياة مع علي .
بعد أسابيع من العلاج ومع اقتراب موعد الزفاف يتبين للطبيب أن العلاج لم يعد يجدي فجسدها الذي استشرى فيه المرض توقف عن الاستجابة للعلاج و أن الأمر الآن بين يديّ الله و رحمته ، وأما العلاج فلا نتيجة منه سوى المزيد من الأموال المهدورة هباء .
تطلب سناء مقابلة علي فيأتي إليها على جناح اللهفة والشوق والقلق لتقابله بوجهٍ باكٍ و عينين زائغتين محمرتين و قرار لا تراجع عنه .
_ سناء حبيبتي مابالك ؟! لِمَ تبكين ؟ لقد أقلقني صوتك و هأنا أراكِ الآن في حالة مُقلقة . أخبريني ماذا حدث ؟
_ علي أنا لا أستطيع أن أكون لك زوجة طبيعية فمرضي قد استفحل في جسدي كله أصبحت منهكة تماما منه لا أستطيع الوقوف ولا السير إلا بمساعدة لا أتمكن من النوم إلا بمهدئات من شدة الألم الذي لا يفارقني ليلا ولا نهارا ، لا يمكنني الاهتمام بك أو بمنزلنا . باختصار أنا امرأة عليلة قريبة من الموت بعيدة عن الحياة لم يتبقَ في عمري الكثير ربما شهر أو أسابيع أو أيام ولا يمكنني أن أتركك تربط مصيرك بمصيري المنتهي .. ابحث لك عن غيري لتسعدك وتكون أما لأبنائك .
_كفى جنونا ! ماهذا الذي تثرثرين به ؟ من قال بأنك ستموتين ؟ ثم من سمح لك أخذ القرار عني من أتزوج ومن ستكون أم أبنائي ؟؟ و من ذا الذي يستطيع تحديد ساعة موته ليحدد موت الآخرين ؟!!
توقفي عن هذا الهراء الآن وانسي كل ما قلتيه و سأنساه أنا أيضا .. فقط تذكري العرس الذي تبقى له أقل من عشرة أيام .
_ أرجوك علي إنه ليس هراء . ثم حتى وإن لم أمت فسأعيش عليلة سقيمة لن أتمكن من العيش كالناس الطبيعين ولن أكون كباقي الزوجات .
_ ومن قال لك ذلك ؟ سأحضر لك من يعمل تحت قدميك ولن تكوني بحاجة لفعل أي شيء .. فقط أرجوكِ لأجلي كُفّي عن هذا الكلام أرجوكِ .
لم تستلم أخرجت من تحت وسادتها ورقة وأعطته إياها
_ ما هذه الورقة ؟ قائمة بطلبات خاصة بكِ ؟
_ لا افتحها لتعرف ما بها .
_ اهااا أسماء صديقاتك اللاتي تريدين أن نضمنهن في قائمة المدعوين .. حسنا لا عليكِ سأطلب من أمي أن تضيف هذه الأسماء العشرة .
_ لااا .. لسن مدعوات .. هؤلاء مرشحات لك لتنتقي من بينهن واحدة تكون عروسك .
أوشك أن يصرخ من الألم لسماعه كلامها .. لقد كانت صدمة معرفته بخبر مرضها على شدتها و هولها أخف بكثير مما قالته و تفكر فيه .
_ يبدو أن المرض يا حبيبتي قد أثر على تفكيرك .. هل من المعقول أن أفكر بأخرى غيرك وأنتِ معي ؟ كيف فكرتِ بل كيف سمحتِ لعقلك بالتفكير فيّ بأنني سأوافق على هذا الأمر ؟! كيف يمكنني التخلي عنك بهذه البساطة كيف يا سناء استطعتِ الظن بي هكذا ؟!
_ أرجوك علي لا تناقشني .. ليس هناك وقت ينبغي أن تتحرك سريعا لتخطب واحدة منهن قبل موعد العرس ليتم كل شيء في موعده المحدد .. تعال سأخبرك بمواصفات كل واحدة منهن .. ا
أمسك يديها مبتسما محدثا إياها بهدوء و حزن :
_ عزيزتي لا تتعبي نفسك . لن أرى شيئا و لن أسمع وصفا .. لن تأخذ مكانك أي واحدة افهمي أيتها الحبيبة العنيدة .
لم تستطع أن تكمل محاولاتها في إقناعه فالحب والإصرار عليها اللذان كان باديين بوضوح في عينيه أسكتاها وأفقداها القدرة على المواصلة والعناد .
تبسمت له من بين دموعها وهزّت رأسها موافقة مستسلمة لقراره سعيدة بوجوده قربها و بحبه الذي لم يثنيه مرضها أبدا .
بعد أيام تمّ العرس على الرغم من تحذيرات الطبيب له بأنها قد لن تعيش معه أكثر من شهر لكنه صمم على زواجه منها فالأعمار بيدالله ثم أنه كان يريد أن يعيش معها ولو يوما واحدا إن إراد له الله ذلك راضيا بقضائه حامدا شاكرا له .
عاشا معا حياة سعيدة لم يكن يعكر صفوها سوى الأوقات التي يداهمها فيها الألم بعد أن توقفت عن أخذ العلاج واكتفت بالمهدئات .
بعد مرور العام و في ذكرى زواجهما الأول .. كان قد قرر أن يقيم لها في منزلهما حفلا بالمناسبة أراده أن يكون مميزا خاصا بهما وحدهما .
أحضر الشمع و الكعكة و الإضاءة الملونة التي سيضيء بها المنزل .. أعد كل شيء بينما هي نائمة في غرفتها فالمرض اللعين قد جعل منها شِبه إنسانة لا تقدر على الإتيان بأقل مجهود إلا و قد نال منها التعب و أنهكها .
ذهب إلى غرفتها ليوقظها .. فتح الباب بهدوء شديد و دلف إلى الغرفة ماشيا على أطراف أصابعه كي لا تسمعه فتصحو من نومها فزعة .
اقترب و جلس بجانبها أمسك بيدها ليجدها باردة كقطعة من الثلج رغم سخونة الجو ! نظر إلى التكييف الموجه ناحيتها وهو يشتمه و يدعو عليه مسرعا نحوه ليرفعه قليلا و يعود إليها من جديد .
أمسك يدها مجددا واضعا يده الأخرى على شعرها هامسا باسمها لكنها لم تتحرك ! كرر المحاولة وهو يضع يده على وجهها ليجده هو الآخر باردا ! بجنون يحرك يده نزولا باتجاه رقبتها ليتحسس نبضها لكنه لا يشعر به .. يزداد جنونه فيضع رأسه على صدرها تحديدا ناحية قلبها علّه يستمع لنبضاته فيستريح لكنه لا يسمع شيئا ولا يشعر بأي حركة تصدر عنه ولو على ضعف .
يمسك بها بيديه الاثنتين ويهزها بقوة مرددا اسمها لكن دون جدوى .. يفلت يديها مستسلما لينام بجوارها كطفل اشتاق لحضن أمه وهو لايزال يردد اسمها ..
النهاية .
و يقال أنه أنشد لها قصيدة عندما إرادت إقناعه باختيار زوجة أخرى له .. يقول فيها :

قالت لك الله دع حباٌ شقيت بهِ
وارفق بنفسك هذا الحب يفنيها

ما عاش من فيه هذا الداء ينهشهُ
حتى وإن عاش بالآلام يمضيها

ناشدتك الله دعني ها هنا فلنا
حياتنا في جنان الخلد نقضيها

نفسي لأمر إله الكون راضيةٌ
فعش حياتك يا روحي وهنيها

رشّحت عشراً فخذ من شئت يا أملي
حليلةً من فؤادي الصبِّ أهديها

أجبتها ورياح الحزن تعصف بي
ببسمةٌ كلّ حزني يختفي فيها

يا منية النفس يا روحي ويا أملي
يا من لها عشت لا شيءً يضاهيها

سلي إذا شئت مالي كي أطيب بهِ
نفساً وإن شئت تلك النفس أعطيها

ما المال ؟ ما العيش ؟ والأحباب ليس معي
أنتِ السعادةُ في أبهى تجلِّيها

وأنت لولاكِ ما طاف الهناء بنا
وما شدوتُ بألحاني أغنّيها

وفرحة العمر مولاتي بموعدها
يوم الخميس بحبٍّ سوف نحييها

معاً معاً ها هنا نحيا وموعدنا
معاً معاً في رياض الخلد نقضيها

______
قصة : #نور_العلا ( عن قصة حقيقية ) .
أبيات : الأستاذ #عبدالمجيد_قحطان .

#قصة_و_قصيدة
جمعهما الحب و فرّقهما الموت .قصة لنور العلا
شارك الموضوع ليراه أصدقائك :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
إتضل بنا | فهرس المدونة | سياسة الخصوصية
جميع الحقوق محفوظة لموقع شبكة أجداور
Created by Maskolis Published by Mas Template
powered by Blogger Translated by dz-site