{[['']]}
نعم
يا صديقي..
أنا
من أقصى شمال الشمال..
من
قريةٍ غائرةٍ بين الجبال كعينِ عجوزٍ في الثلاثين بعد المائة، حيث لا كلأ ولا ماء ولا
تغطية، سماءٌ لا تغرد عصافيرها الا من شدة الجفاف، وأرضٌ ليس لها ما يميزها سوى ازدهار
العشق بين فتيانها..
لا
تستغرب؛ فحتى مخيمات المهمشين تعُجُّ ببذور الحُبِ التي تنتظر السِقاء..
ربما
ارتسمت بذهنك صورةٌ لنا، ونحن نلف رؤوسنا بالشماغات ونتشبث جيداً بمؤخرةِ الشاصات..
قد
تظنه منظراً غير حضاري، لكن صدقني لم نجد وسيلةً نذود بها لسعات البرد عن آذاننا ونحفظ
ما تبقى من أسماعنا غيرها..
حسناً،،
سأبوح لك بسرٍّ لا أخال أحداً يعرفني يجهله، أنا لم أركب في حياتي غير شاصٍ واحدة هي
الوحيدة في قريتي والأقدر على بلوغها..
نتوكأ
عليها في جلب الثمار، ونتسوَّق بها، وللحاج علي فيها مآرب أخرى..
فهو
مالكها وأبو هدى؛ التاجرة الوحيدة في القرية..
والفاجرة
الوحيدة أيضاً؛ فلكم هِمتُ بها وهامت بي، وهممت بها وهمَّت بي!
أنثى
جامحة، عطرها يعلق في الأنف أيّاماً ويجعل الأحرار أيَاما..
ربما
أكون أكثر من ساهم في بناء ثروتها؛ فلطالما تسللتُ الى متجرها وقت التراويح لأشتري
ما لا أريد؛ فرؤيتها وحيدةً هي كل ما أريد..
لا
زلت أذكر أول لمسةٍ لمستها، عندما انقطعت الإضاءة فجأةً فطلبَت مني أن أحضر الشمعة
من أحد الرفوف؛ ولأن متجرها كان ضيِّقاً وقعَت يدي سهواً على نهدها فاهتز كأنه جانٌّ..
ولم
تكن تحتاج الى ذريعةٍ أعظم من تلك لتحتلُّني..
لم
أكن أغبطها على شيءٍ سوى أنها كانت تحتجز المقعد الوثير بجوار أبيها الذي يصطحبها دائماً
كمُصلٍ ضد قطَّاع الطريق، أما نحن فمحظوظون جداً إن استطعنا اللحاق بالسيارة والتشبث
بمؤخرتها..
شاصٌ
تُسِر الناظرين..
ما
إن تتجلى من بين الجبال حتى يهرع الجميع لاستقبال عطاياها..
أصِل
الى البيت وأمي بمطبخها تجهز وجبة الإفطار، وأبي بالجوار يغازلها، ويستمع الى تلاوةٍ
عَطِرَةٍ على إذاعة صنعاء للقريطي أو محمد حسين عامر، ولا أدري ما العَطِرُ فيها سوى
إيحائها بقرب موعد الإفطار؟! إذ لا رخامةٌ في الصوت ولا عاطفةٌ في الأداء..
وبينما
أضع أغراضي التي جلبتها؛ أسمع صوتَ قُبُلاتٍ طائرة!..
أنظر
الى مصدر الصوت فأجد أخي واقفاً بجوار السور الهامشي الذي لا يفصلنا عن بيت جيراننا،
وابنتهم غادة تداري صدرها الذي أثمر مؤخراً وتناوله طبق سمبوسةٍ بينما ينشغل هو بإرسال
قبلاته اليها..
عشنا
مئات الأعوام من العزلة، غير أنَّا كنا سعداء حتى الثَمَل..
وفجأةً
كشَّرت الحرب عن أنيابها، فاستبدلَتْ قُبَل أخي الطائرة بطائرةٍ قُبلها ساخنة حد الشواء،
ولم تجد لها هدفاً غير أخي وحبيبته غادة بينما يناولها طبق المربى ذاك فاستُشهدا في
يومٍ كان مقدارهُ ألف سنة من الأحزان في أعماقنا..
وتلك
الشاص نكثت غزلها ولم تعد تجلب الى قريتنا سوى المزيد من الضحايا كل يوم..
وها
قد أغلقت هدى متجرها وقلبها، وشاخت حتى قبل أوانها!
أما
أبي فلم تعد مسامعه تساعده على استماع الراديو فاكتفى بالصمت مؤنساً وخليلاً!
ورغم
مرور أعوامٍ على استشهاد أخي إلا أنَّ دموع أمي تحجَّرت بمآقيها في ذكرى استشهاده وهي
تعُّدُ طبق المربى ذاك..
حاولَتْ
إخفائها؛ لكنها عجِزَتْ تماماً، فسقطت دموعها كمراجِل على الطبق التالي..
عندما
تذوقتُهُ وجدتُهُ ألذُّ من سابقه؛ فأدركتُ حينها كم هي لذيذةٌ ومشهيةٌ دموعُها..
غير
أني لم أعد أستسيغ شيئاً؛ فنحن مازلنا صائمين منذ تلك اللحظة التي صدَعَت فيها مدافع
الحرب، وصدِأًت فيها مدافع الصيام..
محمد جار الله |
مسابقة #عيدية_كاتب في القصة القصيرة
(مجموعة اليمن تكتب).
|
|
مشاركة مميزة: اختيار
المحكم/ زياد القحم
|
|
أســـم المشاركــــة:
|
قُبلةٌ طائرة
|
كاتب المشاركـة:
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق