{[['']]}
في هذه المقالة تحدثت الكاتبة عن واقع البلاغة في اللغة العربية في عصرنا الحالي مقارنة بما كانت عليه البلاغة في عصرها الذهبي للإسلام وما قبل الإسلام وقد عنونت مقالتها بعنوان ( بين البلاغة والبذاءة ) .
بين البلاغة والبذاءة مقالة للكاتبة نور العلا
قديماً في العصر الذهبي للإسلام وما تلاه
وحتى ما قبله أو ما يُعرف بالعصر الجاهلي ؛ اشتهر العرب بالبلاغة والفصاحة ، في قصائدهم
وخُطبِهم ورسائلهم وحكاياتهم الهزليّة منها والجِدّيّة ، وحتى في أحاديثهم العادية
اليومية .
كان الأدب علامة فارقة لهم ، وكان الرجل
فيهم يُعرف ببلاغته وفصاحته ، وكُلّما كان بليغاً أكثر كُلّما عَلا شأنه وازدادت هيبته
بين قومه وعشيرته وحتى العشائر المُحيطة والبعيدة على حدٍّ سواء بسبب شهرته لديهم بامتلاكه
لتلك المَلكَة .
لا يعني هذا أنها كانت قاصرة على فِئة دون
أخرى أو على قبيلة دون سواها ، بل كانت عامّة منتشرة بين الجميع كِبارا وصغارا رجالا
ونساء ؛ لكنها أصبحت صفة لصيقة ببعضهم حتى اشتهروا بها دونا عن غيرهم لمواقف ارتبطت
بهم في عصرهم .
في زمننا هذا ومنذ أواخر القرن العشرين
أصبحت البلاغة والأدب في خبر كان ، أصبحت أمراً هامشياً وصارت قلة الأدب علامة مُميزة
لجيلٍ كامل بل وأجيال تلته !
أتذكّر في صِغري في أول دخولي للمدرسة عُدتُ
إلى البيت بحصيلة من الألفاظ والمفردات ( المش كويسة ) وبكل براءة أخذتُ أُرددها أمام
أمي وإخوتي لأُفاجأ بعاصفةٍ من التوبيخ والتهديد إن كررتُها ثانية ولو همساً.
بعد تلك التهديدات توقفت نهائيا عن ترديد
تلك الألفاظ ، لكن كان يتملكني شعورٌ عظيمٌ بالغرابة والاستهجان من موقف أهلي ؛ إذ
أنني كنت أرى بعضا من زميلاتي في المدرسة وهن يتلفظن بمثل تلك الألفاظ ببساطة متناهية
وكأنهن يرددن أحد الدروس المقررة بِلا خوفٍ أو حرج.
في طريقنا إلى المدرسة كنا نرى كلمات مكتوبة
على جدران البنايات المتراصّة على جانبي الطريق ؛ كلماتٍ لم نكُن نفهم معناها ونحن
صِغار ، لكننا لم نكُن نجرؤ على السؤال عن معانيها خوفاً مِن عِقاب شديد فقد تكون إحدى
تلك الألفاظ المُحرّمة .
لم يكُن الأمر محصورا في المدرسة فقد كانت
ولا زالت الشوارع والأسواق تفيض بالبذاءة اللفظية ناهيكَ عن البذاءة الفِعلية ( الإشارات
والإيماءات وما شابهها ) فكانت أذاننا اذا ما مشينا في شارعٍ ما أو تنقلنا في السوق
تُصاب بالعَطَب والتَلف مِن أثر التشنجات التي تعتريها جرّاء سماعها تلك الألفاظ التي
يُخيّل لسامعها أنها خارجة مِن إحدى مكبّات القمامة !
قبل زمن الفضاء المفتوح وقبل مواقع التواصل
الاجتماعي كنتُ أظن بأنّ البذاءة " فنٌ " حكرٌ على اليمنيين ، " عِلمٌ
" خاص بهم ولهم فيه براءة الاكتشاف أو الاختراع ( لا فرق المهم أنه علم حصريّ
) .
فعلى الفيس مثلا فوجئت بأنواع البذاءات
التي يشيب لها شَعر الوِلدان وما فاجأني أكثر أنها ليست صادرة عن يمنيين ! ( وهنا وَجَب
عليّ الاعتذار منهم وتقديم أحرّ عبارات أسفي وتندمي على ما ظننت سابقا ) .
إذ أنك على صفحات الفيس المختلفة سواء الشخصية
أو العامّة ، لمشاهير السياسة والفن وحتى الأدب تجد تعليقات تخجل بعدها أن تُعلن انتماءك
لهذا الجزء مِن العالم الذي يُنسب إليه أعظم لُغة وبِها أُنزل أكرم كتاب وتحدّث بها
أشرف خلق الله أجمعين !
فالجميع يشتم ويسبّ ولا يتوّرع عن ذِكر
الأعراض بأقذع الشتائم وأفظع الألفاظ ، عدا عن الكلمات ذات المعاني المُبّطنة والتي
تحمل ألف معنى بألف إيحاء وجميعها مُفعمة بالانحطاط والقذارة .
وممّا يُثير العجب والأسف في آن أن تجد
بعضا من أولئك ( البذيئين ) مازالوا صغارا لم يتجاوزوا المرحلة المتوسطة وكأنّ تلك
الألفاظ من أساسيات التربية في المنازل ؛ وللأمانة هي كذلك في بعض الأسر إذ تجد الأب
أو الأم يأمر طفله أو طفلته بقول كلمة ( من إياهم ) لأحدهم أيّاً كانت سنه أو كان مقامه
من باب المزاح والدعابة غير عابئين بخطورة مايفعلون ولا بعواقبه في المستقبل .
وأنا أكتب الآن تناهت إلى مسامعي من أسفل
نافذتي "مُعلقة" ينادي بها أحدهم شخصا آخر بكل بساطة وأريحية ليُجيبه المُنادى
بِأفضل منها ( ولا يُبالي ) !
بالطبع الأمر ليس عامّا لكنه وللأسف شائع
بشكل يتنامى سريعا ويتكاثر خاصة في عالمنا الافتراضي الذي أتاح للجميع جُلّ ما قد يُمنع
عنه في الواقع .
إن ما بين البلاغة التي كُنّا في زمنٍ غابر
روّادها ومُبتدعيها بين الشعوب المستعربة حينها ، وبين البذاءة التي أصبحت البديل لها
واستشرت في مجتمعاتنا كالسرطان ؛ بونٌ شاسع تم تجاوزه منذ زمن بعيد حتى أصبحت قِمّة
البلاغة هي الانحطاط في البذاءة , ( و لسه الخير لقُدام ) والله المستعان
.
واقع اللغة العربية اليوم |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق