آخر ما قالته أغنية حزينة/ قصة قصير لعبدالله الموشكي

{[['']]}
منذ بداية الحرب وما تبقى مني يتنقل باستمرار في ما تبقى من هذه البلاد.
مرت ستة أشهر وأنا عالق في هذه المدينة المحاصرة، أصبح الموت أكثر السلع رواجا هنا، عشرات الأرواح تباع يوميا بأسعار رخيصة لا تتعدى ثمن رصاصة أوقذيفة هاون !
كُثُرٌ هم المعنيون بنزع الأرواح هنا، كلهم على صواب.. وحدها الضحية هي المذنبة .
أسندت ظهري على جدار إسمنتي، جدار كان فيه من النتوءات ما يكفي ليثبت أن الحرب قد مرت بجانبه.
نظرت إلى السماء، ثم بدأت بكتابة رسالة إلى الله، أقترح فيها عليه بعض الأشياء التي أحتاجها هنا.
"إنه الأول من رمضان يالله، وأنا صائم منذ يومين، فلِمَ لا تُنزِّل عليَّ مائدتك ؟ أليست معدتي الخاوية أحق بها من بني إسرائيل؟"
انتظرت وعندما لم يحدث شيء، كتبت رسالة أخرى.
" لقد انتظرت كثيرا يالله، لم يسقط شيء، ولا حتى رغيف يابس.. "
عندما دخل وقت المغرب هرعت لأحد المطاعم الشعبية في أحد أحياء المدينة المدمرة، لم يطردني صاحبها، رغم أنه انزعج من شكلي، لكنه لم يعرف من أنا رغم شهرتي الكبيرة بين أصحاب المطاعم هنا.
طلبت الكثير من الطعام، ثم أكلت حتى امتلأت بطني، قمت أمشي وأنا أترنح، حاولت أن أتحاشى النظر إلى صاحب المطعم وأنا أخبره بأنني لا أملك مالا، أخذني من قميصي وركلني في بركة ماء صغيرة تحت المطر بجانب المطعم، لم أسأله "لِمَ ركلتني..؟" فقد كنت معتادا على ركلات أصحاب المطاعم منذ أن جئت إلى هنا.
هناك شيء مريب يحصل لي كل مرة ! لا أدري لماذا كلما شبعت يضيع مني الشارع الذي على رصيفه ؟ بح صوتي وأنا أناديه وألوح له عله يجدني.
فجأة، وبجانب إحدى المحلات التجارية المغلقة، رأيت طفلة نازحة تتسول جالسة على الرصيف، مادةً يدها اليمنى في الفراغ ، ومتكئة بيدها اليسرى وهي تعيد وتكرر :
_ نازحين ياعمي، إعطينا قيمة خبزة.. أجرك عند الله.
حينها تذكرت جدي وهو يقول لي:
"عندما يترك النازحون أراضيهم، تتحول أرواحهم إلى أغانٍ حزينة، تساعدهم على الطيران بعيدا إلى حيث ينتمون".
مشيت نحوها وأنا أقلع معطفي الرث لأضعه فوق رأسها كي لا يبللها المطر، حدقت في خدها.. ثم تمتمت بدهشة:
_يالله ما أجملني !
وجهي كان ساطعا في خدها، كل الذين مروا في حياتي صرحوا لي بأني قبيح، حتى المرايا التي رأيت وجهي خلالها صرحت بذلك، وحده خدُّ هذه الطفلة من يستطيع إثبات العكس.
فجأة.. سقطت بجانبنا قذيفة، اعتقدت أني مت، صوت أنينها الخافت بجانبي جعلني أتراجع عن اعتقادي.
لم أشعر به حين مر بجانبي، انحنى على جسدها بملل، كمن يقوم بعمله الروتيني الممل، ملك الموت.
زحفت نحوه محاولا إمساكه من عنقه.
_أرجوك.. دعها تعيش، خذ معطفي إن أردت، سأعطيك أيضا شارعي الذي أنام على رصيفه.. أتوسل إليك، لديك الآلاف من السفاحين والقتلة في هذه البلاد، فلتأخذ أرواحهم كلها، ودع هذه الطفلة تعيش.
رفعت رأسي لأدرك أنني كنت أهذي ، زحفت باتجاه جسدها، ثم تكومت أمامها، وضعت يدي على خدها لأمسح خيط الدم المتخثر عليه، همَسَتْ في أذني بوجع:
_ نازحين ياعمي، اعطينا قيمة خبزة، أجرك عند اللــ..
وقبل أن تكمل، كانت روحها قد تحولت إلى أغنية حزينة، وطارت بعيدا !
وعلى شاهد قبرها كُتِب.
"...لقد ظلت صائمة، منذ تلك اللحظة التي سكتت فيها مدافع الإفطار.. إلى تلك اللحظة التي أفطرت فيها بقذيفة"...
عبدالله بن قايد الموشكي
مسابقة #عيدية_كاتب في القصة القصيرة   (مجموعة اليمن تكتب).
المشاركة الفائزة بالمركز الرابع:
أســـم المشاركــــة:
آخر ما قالته أغنية حزينة.
كاتب المشاركـة:
شارك الموضوع ليراه أصدقائك :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
إتضل بنا | فهرس المدونة | سياسة الخصوصية
جميع الحقوق محفوظة لموقع شبكة أجداور
Created by Maskolis Published by Mas Template
powered by Blogger Translated by dz-site