]

قصة معركة زواج للكاتبة نور العلا

{[['']]}
أخبرني والدي بأنّ أحدهم تقدّم لخطبتي ، طبعا مع إلقاء خُطبة عصماء عن مناقبه ومحاسنه وصفاته التي لا تُعدّ ولا تُحصى بِحسب تعبير والدي العزيز ؛ فهو أي الخاطب - كامل والكمال لله !
كالعادة طلبت مُهلة للتفكير ؛ وهي بالطبع مُهلة للبحث عن عُذر للتهرب من هذا الزواج .
ليست المرة الأولى التي يأتيني فيها خاطب وليست المرة الأولى التي أتنصّل فيها وأُلغي المشروع من بدايته .
ففكرة الزواج عندي تُعدّ من الكماليات ، بينما عند أهلي وخصوصاً والدي هي ضروريّة بل وأشدّ الضروريّات ضرراً ( وهو كذلك فعلاً برأيي ) .
كان والدي كُلّما جاءني خاطب فرح وتهلل ، ليس ليرتاح من همي أو ليخفف عن نفسه عبء مصروفاتي - حاشاه- وإنما لأنه كما كثير من الآباء و الأمهات يرون في الزواج هو غاية حياة الفتاة و صمّام الأمان لمستقبلها وهو الستر لها وكأنها في بيت أهلها ليست كذلك !
المهم بعد مرّات عِدّة ومتكررة لخاطبين باءت بالفشل أقسم أبي بأغلظ الأيمان أنّ من سيأتي خاطبا سوف يسلمّني إيّاه يداً بيد بلا شروط أو مقدمات أو تكاليف أو أيّاً من أمور الزواج وحفلات الأعراس الباهظة غير الضرورية ؛ شريطة أن يتصّف بالصفات المطلوبة في أي خاطب .
حتى جاء هذا الذي لا أدري من أيّ سماء هبط علينا ولا أيّ أرض لفظته إلينا .


الكاتبة / نور العلا
المهم بعد طلب المهلة المحددة بيومين فقط ـ فوالدي لا يريد أن يطول الأمر أكثر ـ أخذت أُفكر بالطريقة المثالية ( لتطفيشه ) كنت حينها أتصفح موقع الفيس بوك فأتتني فكرة أن أفتح حسابه على الفيس كي أرى ماذا يكتب ، مَن هم أصدقاؤه ، كيفية إجابته وردوده عليهم ، ما نوعية الصور التي يضعها ، هل لديه صديقات وما أسلوب الحديث بينهم ؟ أشياء أبحث عنها وكأني سأقبل إضافة صديق .. ضحكت من نفسي لكن لا يهم يجب أن أجد ثغرة تمكنني من الرفض وبلا خوف أو اعتراض من والدي العزيز .
تذكرت أني لا أعرف اسمه ، ناديت أخي الأصغر لأسأله ، ابتسم ابتسامة بلهاء يقصد بها أن تكون ماكرة لكن لم يستطع ، أردتُ حينها أن أضع هاتفي في فمه ، لكنني تراجعت لسبيين الأول أنني سأفقد هاتفي الذي اشتريته بمبلغ و قدره ، والثاني لأنّ أخي هذا لا يؤتمن على حبة أرز فكيف بمحاولة اغتياله ؛ فهو لن يكتفي بنشرها في أنحاء حيّنا بل سيضعها على الفيس ويُذيّلها بهاشتاج #اغتالتني_أختي !
صرختُ فيه مُكررةً سؤالي وإذ بِه يصيح بأعلى صوته " نور تسأل عن اسم العريس شكلها بتوافق " حينها فكرة أن أضع الهاتف في فمه تلاشت تماما ، فقد حلّت مكانها فكرة أفضل وأنجع وهي التبليغ عنه بانتمائه لداعش لأتخلص من بلادته وللأبد .
تركته وذهبت إلى أختي الأكبر لأسألها لأجدها ( ميّتة من الضحك ) فقد وصل إلى سمعها صوت أخي وكلامه السخيف .. و لم تتوقف عن الضحك إلّا حينما أوقعتُ السكينة عمدا على الأرض فسقطت مصدرة صوتا مزعجا أفزع أختي وأسكتها عن ضحكتها المستفزّة .
كررتُ سؤالي بضيق أخبرتني وهي تحاول كتم ضحكتها الهستيرية مرة أخرى ، ولكي أضمن عدم ضحكها مجددا رفعت أمامها السكين ملوحة بها فابتلعت ضحكتها التي ما إن خرجتُ من المطبخ حتى عادت مرة أخرى لتثير أعصابي المستثارة أصلاً .
عُدتُ إلى غرفتي لأبحث عن هذا ( عريس الغفلة ) وبعد عناء ومشقة وفرز عدة أسماء مشابهة لاسمه اخترت الاسم الأقرب لِما قد يكون هو فأنا لا أعرفه وليس لديّ أي صورة له وفكرة أن أذهب لأسأل أو أطلب وصفا تقريبيا لشكله هي إعادة للمشهدين السمجين السابقين .
ضغطت على ما ظننت أنها صفحته وإذ بالصدمة فصفحته مُغلقة لايمكن لغير الأصدقاء رؤية مافيها ، حتى الصور الشخصية مُغلقة .
تبّا له ما كل تلك السريّة ؟ يبدو أنّ لديه ما يُخفيه . أعجبتني جدا هذه الفكرة فهذا يعني أنني وجدت عليه شيئا أقدمه للعدالة أعني لأبي ، لكن كيف أُثبت ذلك ؟ هنا المشكلة ! حاولت الكشف عن بقية الأسماء ولم أتوصّل لشيء ؛ فإما صفحات مغلقة أو أشخاص من جنسيات أخرى أو صفحات مهجورة منذ شهور وأعوام .. تباً .
انتهى اليوم وأنا أفكر وللأسف لم أستطع التوصّل لطريقة أُبرهن بها عن صدق شكوكي أو أتوصّل بها لمعرفة شيء .
ذهبت إلى فراشي وظللت أتقلّب ، أُغمض عينيّ وأفتحهما كمن يعبث بزرّ تشغيل المصباح علّ هذه الطريقة تساعدني على إيجاد الحل .
وفجأة وعند فتحي لعينيّ لمعت فكرة برأسي حتى شعرت أن تلك اللمبة الكرتونية قد أضاءت أعلى رأسي . وحينما اطمأنيت للفكرة نمت بهناءة .
الجزء الثاني/
صباحا عند استيقاظي من نومي كان أول شيء فعلته هو البحث عن أبي .. سألت أخي وأختي اللذين كانا يتناولان الإفطار فأجابا بأنه قد مضى إلى مكتبه باكرا . وفي حركة " سماجة" جديدة التفتَ أخي نحو أختي قائلا " شكلنا بنفرح قريب ببعض ناس " أجابته أختي " اوووووه ياريييت والله . بس تدري مابصدقش الا لما اشوف بعيني" .
هممت بأن أردّ ردّاً صاروخيّاً ، لكنني تحاشيت الدخول معهما في مهاترات قد تُفشل عليّ تركيزي وتحضيري لخطتي ، لذا تركتهما يفهمان ما يريدان لأُكمل أنا خُطتي على نار هادئة .
في المرات السابقة كان الأمر ينتهي بشروط تعجيزية اخترعها ؛ كعرس كبير في أفخم صالة أعراس في مدينتنا مع تجهيزاتها وليومين ، أو بيت كبير بدورين رغم كرهي للبيوت الكبيرة الواسعة ، أو السفر إلى بلدٍ ما .. ولعلمي بحالة المتقدمين المادية المتواضعة كانت تلك الطلبات والشروط تعتبر رفضا واضحا غير قابل للتشكيك .
ما عدا في إحداها كان المتقدم طبيبا ومقتدرا وجميع طلباتي بحسب كلام أبي ستجاب بلا نقاش ؛ يومها شعرت بأنني قد وقعت في الفخ ولم أجد عذرا أقنع به أبي .. حتى جاءني الحل عن طريق فيلم كنت أتابعه وكان البطل فيه طبيبا لكنه مصاب بالفصام وحين تأتيه الحالة يقتل من اختلف معه في وقت سابق حتى زوجته قتلها لأنه في اليوم الأول اختلف معها على مذاق الشاي الذي صنعته .
فرحت كثيرا فقد وجدت ضالتي .. نعم سأخبر أبي بخوفي من ذاك الطبيب فقد يقتلني يوما بسبب الشاي الذي لا أستطيع ضبطه ..
ورغم عدم اقتناع أبي ومحاولاته إقناعي بالهدوء تارة وبالعصبية تارة أخرى بأن ذلك لايحدث إلا في الأفلام ؛ إلا أنه رضخ لقراري في آخر الأمر .
لم يسألني أبي يوما عن سبب رفضي المتكرر رغم أن المتقدمين _ والحق يُقال_ كانوا على خُلق ولا يُعابون ؛ لم يحاول يوما معرفة السبب الذي كان يمنعني من مجرد حتى التفكير في أمر الارتباط والخوف من سيرته ، ولم يجبرني يوما على قبول أحدهم ولو حتى كخِطبة للتعارف .
لم يَكُن أبي يوما هكذا لم يُجبر أيّاً من شقيقاتي الأكبر مني على الزواج من أي شخص إذا كُنّ غير مقتنعات .وفي الحقيقة لم يجبرنا يوما على فعل شيء أو حتى قبول أو رفض أي أمر .. لكنه منذ وفاة أمي أصبح يشعر بمسؤولية مضاعفة تجاهنا بالذات أنا وأختي التي عُقد قرانها منذ عام وهاهي تستعد لزفافها قريبا .. بينما أظلّ أنا مشكلة أبي المستعصية على الحل والهمّ الأكبر بحسب تعبير شقيقاتي .
ظُهراً حين عاد أبي إلى المنزل كالعادة جلس أمام شاشة التلفاز يشاهد الأخبار ، قلت لنفسي قد حانت الفرصة للبدء في تنفيذ خطتي الجهنمية .
وضعت على شفتيّ ابتسامة مسالمة توحي بالاستسلام والخضوع ومشيت باتجاه مقعده ولانشغاله بالتلفاز لم ينتبه لاقترابي و لا لابتسامتي التمثيلية حتى جلست إلى جواره .. التفتَ إليّ متسائلا متحفّزا وكأنه أحس بأنّ الأمر متعلق بعريس الغفلة .
وحينما تأخرت عن الكلام زفر زفرة غاضبة ثم قال " ها تكلمي ايش تشتي " باغتني سؤاله ولوهلة تبخرت الخطة من رأسي وتلاشى كل الكلام الذي كنت أُعدّه منذ الصباح .
أعادني لدنيا الواقع صوته الذي قد بدا عليه نفاذ صبره تماما وهو يقول " هياااا تكلمي ولا قمتي تجهزي الغدا مع أختك " .
في الواقع لا علاقة حميمة بيني وبين إعداد الطعام والمطبخ بأكمله فكلما حاولت التقرب منه خطوة ابتعد عني أميالا !
لا أدري السبب .. ربما لأنني كما تقول أختي ( تطبخي بلا نفس ) وكنت أجيبها بأن فكرة تقطيع الخضار واللحوم ووضعها على النار و "لسوعتها" لنأكلها نحن فكرة شنيعة ولا إنسانية بالمرة ( قصدكم من عذر ) فتسارع أختي بالرد ( لكن وقت الأكل ما تعرفيش ده الخبر ولا هو الأكل الرحيم ! ) لذا فقد كانت فكرة دخولي المطبخ بقدر ما تزعجني ؛ بقدر ما تسبب لأختي ارتفاعا في الضغط نتيجة للكوارث التي أسببها قبل و أثناء وبعد عملية الطبخ .
ابتلعت ريقي وأنا أحاول لملمة أعصابي ( اللي تبعزقت بصياحه ) وأعدت وضع تلك الابتسامة لكن بشكل أضعف فقد تلاشى الكثير من شجاعتي السابقة المزعومة .
أمسكت بيده وهي عادتي إذا ما أردت طلب شيءٍ ما منه والتفت إليه وتنحنحت كثيرا لأن صوتي كان قد تراجع إلى داخل معدتي .
نظر إليّ وكأنه يقول ( الليل مو بتغني ) نظرته تلك أعادت لي صوتي بسرعة عجيبة ( سبحان الله بركاتك يا بابا ) أخيرا استعدتُ صوتي وبدأت بالحديث ( أشتي أطلب منك طلب بس أمانة لا تعصب ولا تزعل هو طلب عادي وبسيط و سهل )
التفت إليّ بنظرة العالم ببواطن الأمور ثم قال ( كم تشتي ) ياااه أبي العزيز يظنني أريد مالا ! يبدو أنه نسي أنه ومنذ يومين فقط قد أعطاني مصروفي الشهري .. أحمدك يا الله على نسيانه فهذا سيمنحني فرصة لأطلب منه بعد أيام قلائل .
ألبست ملامحي رداء البراءة والدهشة والحزن وأنزلت رأسي واضعة عينيّ في الأرض وأخفضت صوتي كي يبدو ضعيفا منكسرا ( الله يسامحك يا بابا يعني انو ما أطلب منك إلا فلوس ) طبعا كلمة بابا أستخدمها في مثل هذه الحالات أو عند طلب شيء ما فأنا أتوهم أنني هكذا أدلّله وأنه يُعطيني استجابة لهذا الدلال بينما هو يعطيني كي يتخلص من نظرات تأنيب الضمير التي أطالعه بها ليل نهار .
صرخ بغضب وقد فاق الوضع احتماله ( لا إله إلا الله مله يا بنتي تكلمي قبل ما اهبلك فوق راسك بالريموت .. أشغلتينا لا خليتينا اتفرج زي الناس ولا إنك سكتي . والحما بشق وانتي بشق . تكلمي بسرعة ولا طيري من قدامي )
فاجأني كثيرا فهو بالعادة هادئ جدا لكن يبدو أن الأخبار لم تكن سارّة إذ ليس من الممكن أن أكون أنا السبب !
مرة أخرى أعدتُ ترتيب ملامحي وابتسامتي واستحضرت صوتي وقلت بصوت لا أعلم كيف جاء بتلك النبرة الغريبة بعد ما حصل ! فقد كان قويا واضحا أو هكذا ظننته إذ أن والدي لم يسمعني جيدا وطلب مني إعادة ما قلته فأعدته بصوت حاولت أن يكون أعلى وأنا أقول ( يا بابا شوف بقلك بصراحة انو مش اني مش موافقة على العريس بس الصدق اشتي اجلس معه لو نص ساعة أتعرف عليه وليطمأن قلبي ) حينها عرفت لِمَ طلب مني إعادة ما قلته ليس لعدم سماعه وإنما لعدم تصديقه ما سمعه مني !
انتفض أبي واقفا موقعا على الأرض الريموت الذي تبعثرت أشلاؤه جرّاء سقوطه المدوّي ؛ الأمر الذي جعل أختي تأتي راكضة من المطبخ ، وأخي مسرعا من غرفته وعلى وجهيهما علامات الفزع .
لم أفهم ما الذي حدث في الدقائق التالية للحدث السابق سِوى أنّ أبي كان يصرخ حينما سحبتني أختي بالقوة من أمامه تجنبا لأي مشاهد دامية قد تحدث وأدخلتني إلى غرفتي وأغلقت الباب وهي توبخني ( مو ده اللي قلتيه يا مليحة ؟ تشتي تجلسي مع العريس ها ! ليش من متى نحنا عندنا دي الخبابير .. قد شفتي وحدة من خواتك اللي قبلك سوّت كده وإلا تجرأت وطلبت كده . مالك انتي ايش جرى لعقلك ! شوفي كيف عصبتي أبوكي الآن .. دحين خليه يهدأ وروحي تأسفي وقولي له إنك بطلتي ده الجنان )
كل الغضب الذي كان بداخلي طوال اليوم واليوم الذي سبقه وكنت أحاول كبته انفجر في وجه أختي مع كلماتها التي لم تزدني إلا عنادا وتصميما ( يا سلاااااام بالبساطة دي ! شوفي يختي أبي فرض رأيه عليا وما تكلمت ولا نطقت بحرف بس من حقي إني اشوف هدا البتاع يمكن سبحان الله أرتاح له وأوافق وقلبي مطمئن .. مش عشان خواتك ما طلبوا كده وتزوجوا زواجات ما يعلم به إلا الله يعني أسوي زيهم لااا هذي عيشة العمر كله حياة كاملة تأبيدة يعني لازم أكون ع الأقل حاسة بشوية اطمئنان مش كم شهر وتلاقوني راجعة لكم لانو ما اتفقناش )
كانت عينا أختي تُطالعني باندهاش لم أفهم سببه ، لكنني كنت بدأت أشعر بأنها قد بدأت تقتنع بكلامي بالرغم من أن كلامها التالي كان مُخالفا له ( هو الصدق ده المتوقع منك إنك ترجعي لنا من تاني أسبوع يا قلبي لأنو عقله ما طبقش على عقلك .. قلتي لي تشتي تشوفيه يمكن ترتاحي وتطمني له ! ع اساس يعني لو ما ارتحتي ولا اطمنتي بتقدري تقولي لا ! قد أبوك حلف عليك انو بتتزوجيه يعني بتتزوجيه يبقى رأيك لايقدم ولا يأخر يا حلوة .. أبي قدو ضبحان منك من كتر ما رفضتي وفركشتي خطوبات بسبب عقلك ده اللي بيودف بك .. اقول اهجعي كده واركزي وصلي ع النبي وسوي زيما قلتلك ولا تزعليش أبوك منك أكتر من كده .. قال ليطمأن قلبي قال )
فغرت فمي لأردّ لكنني عدلت عن ذلك فلا فائدة من أي حديث أو محاولة لإقناعها .. من العبث محاولة إفهامها أن السبب ليس عدم اتفاقي مع الذي سأرتبط به فقط ، بل أيضا الخوف من مسؤوليات هذا الارتباط التي لا أراني قادرة عليها .
تركتني في الغرفة وخرجت لتُكمل تحضير الغداء الذي يبدو أن لا أحد سيتناول منه لقمة بعد العاصفة التي حدثت .
دقائق أسمع بعدها طرقا عنيفا على باب غرفتي وقبل أن أُجيب سمعت صوت أبي من خلف الباب يناديني بانفعال ( انتي يا مجنونة افتحي لي ادخل والا اخرجي .. اشتي اتكلم معك ) .
لا أعلم لِمَ انتابني شعور بأنّ والدي سيستجيب لطلبي وسأُنفذ خُطّتي ( لزحلقة العريس ) .
ابتسمتُ ابتسامة عريضة أخفيتها سريعا كي لا يراها أبي عند فتحي للباب واستبدلتها بنظرات حزينة أشبعتها ندما كتلك التي كنا نسطنعها حينما نخرب شيئا ما في المنزل أو في المدرسة .
فتحت الباب وبصوت يكاد يُسمع خاطبته قائلة ( تفضل يا بابا )
لم أستطع تبين ملامحه عند دخوله إذ أنني كنت خافضة رأسي ، لكني حينما جلست على حافة السرير في الجهة المقابلة لكرسي مكتبي استطعت أن ألمح مدى غضبه وانزعاجه مِمّا قلته .
بصوت حاول أن يكون هادئا قال وهو يتحاشى النظر إليّ ( ذلحين انتي مو طلعه براسك ذي المجنانة ؟ قدك داريه انو نحنا مش عندنا ذه الخبر تشتي تزعلينا منك وبس .. وبعدين تشوفيه او لا قد الأمر واقع بس أنا أعطيتك مهلة التفكير تحصيل حاصل بحسب العادة يعني لكن لا بتقدم ولا بتأخر . انا قدنا بغران منك وحقك الهبالة الي تفعليها كل مره فلاعد تزيدي بيش )
صُدمت ! نعم لقد ظننت أن مجيئه يعني أنه اقتنع وجاء ليعلمني بموافقته .
حدقت فيه بهلع وفي داخلي شعور بأن الحكم ساري التنفيذ تبقى فقط تحديد الزمان والمكان ! حاولت أن أنطق لكنه سارع إلى القول ( طيب انتي ليش تشتي تجلسي معه ؟ تسأليه يعني ؟ ايش اللي تشتي تعرفيه عنه وانا بقلك )
أحسستُ بنسمات من أمل تهبّ عليّ وتنعشني بعد ما حدث .. لكن قبل أن تصل الفرحة إلى أعماقي سمعته يقول ( شوفي يا بنتي انا مشتيش اغصب عليك تحكم بس ولا اني مش قادر اتحمل وجودك او مصاريفك انا خايف عليك يا بنتي واشتي اطمن عليك لاني ما بدوم لك )
آه كم تزعجني تلك العبارة ( اطمن عليك ) وكأن من المضمون أن يكون الزوج ذلك المحب الطيب الذي سيطمأن الأب على ابنته معه !
آليت ألّا أدخل في جدال مع أبي قد يرهقه أكثر ، فهو مهما يكن أب وشعور القلق فيه طبيعي ومنطقي جدا .
التفت إليه قائلة ( طيب هو ايش درس و ايش يشتغل وكم له يشتغل ؟ كم عمره ؟ طويل ولا قصير ؟ مشتيش اقصر مني ولا طويل مرة ! من فين هو ؟ فين ساكن ؟ اهله احياء ولا ماتوا هنا ولا ببلد تانية ؟ يخزن ويشرب سجاير ولا يخزن بس ؟ اووووبه يكون يتعاطى شمة .. وبعدين فين صورته ؟ لا تكون جبتلي تمباكي وفاعلي نعم مفاجأة )
فاجأني أبي بضحكته المُجلجلة التي جعلتني أضحك رغم مزاجي المتوتر ( يا الله ايش من بنت انتي ! ذه تحقيق . بعدين انا بجيب لك تمباكي الله المستعان صح قدنا ضبحان بس مش اجدل بك كذه )
تبسمت بارتياح فقد بدا على أبي أنه قد سامحني .. أردف قائلا ( ولو اني ما قد سويتها لكن عشانك بس بعملها ذي المرة .. خلاص بكرة اخليه يجي وتشوفيه وتجلسي معاه بس مش وحدك طبعا واسأليه اللي تشتي بس دلا دلا مش تطيريه وإلا .... )
لم أصدق ما سمعته هل حقا والدي العزيز وافق على طلبي ؟ هل سأستطيع تنفيذ خطتي وتطفيش العريس وأمام والدي أيضا وبكل ثقة ؟!
آه متى يأتي الغد متى ؟؟
الجزء الثالث /
خرجت مسرعة إلى المطبخ لأبلغ أختي الخبر السعيد .. وجدتها هي وأخي يتشاجران كالعادة .. هو يحاول أن يفتح الأواني والطناجر ليأكل منها وهي بالملعقة الخشبية تحاول قمع محاولاته اللصوصية تلك ( مله خلينا بس لقمة . هيا ذلحين اللي بيشوف بيقول انو بأكل كل الدِست )
(لقمة ! قد بيدك مغرفة سع راسك بتشل نص الدست قال لقمة . كيه طير قبلما أهبلك بالملعقة اللي بيدي براسك المُقرور* ده ) " المقرور تعني بلهجتنا يشبه القارورة "
عند دخولي السريع حلّ عليهما الصمت وأخذا ينظران لي بنظرات هي خليط بين الفضول لمعرفة ما حدث بيني وبين أبي ، وبين الشفقة لِما قد نِلته من توبيخ وتقريع منه ، والاندهاش من الهدوء الذي كنت عليه والابتسامة التي كانت تشقّ وجهي لتبرز أسناني الصغيرة ( هيييييييييي تمت الموافقة باركوووولي )
لن أنسى ما حييت تعابير وجهيهما وهما يتأملاني ثم يلتفتان لبعضيهما وكأنهما يقولان ( ماله دي المجنونة ) كانت الدهشة تفيض عن ملامحهما والتساؤلات تكاد تقفز من أعينهما والغيظ أراه واضحا في انطباق شفتيهما .
كانت أختي هي أول من تحدث ( ايش ايش ؟ مفتهمليش ايش قلتي ! ابوكي مالو يمّي ؟ )
أجبتها بنفس النبرة السابقة ( اقلك ابي وافق انو اشوف العريس المحترم بكره واحقق معاه قصدي اتعرف عليه )
صوت ضحكة أخي المستفزة جعلت أعصابي تنكمش ؛ لا أدري لِمَ يتعمّد الضحك بتلك الطريقة ( يا سلام سلم . من متى ذه الخبر يا بنت ؟ وليش انتي وخواتك ما سويتم كذه ؟ الصدق الصدق طلعتي جنية يا نور . بس كيف أقنعتيه وهو قد كان معصب ومتنرفز .. ستر الله وما ارتكب جريمة )
كانت صامتة تحدّق بي وكأنها تريد أن تستشف من عينيّ ما الذي قلته لأبي وكيف ؟ ( عادك تسأل ايش سوت ؟ مو ما تعرفيش وحقه المسكنة والشويتين اللي تفعلهم لا قده تشتي حاجة ! أكيد جلست تبكبك وتدمع . وتعرف أبوك قلبه رحيم وهي آخر العنقود ما يسخاش عليها )
أطلق أخي صيحة اعتراض ( لااااااا مسمحلكش شوفي . انا آخر العنقود انا مش هي )
( يا اهبل اقصد من البنات )
تركتهما وقد عادا لجدالهما السابق لأعود لغرفتي بعد أن غادرها أبي .
جلست على سريري وشعوري بالانتصار آخذ بمجامع عقلي .. حتى تنبهت لِما أوقعت نفسي فيه !
يا إلهي ماهذا الذي فعلته بنفسي ؟ أي حفرة حفرتها بيديّ لأسقط فيها بكل سهولة ؟
يااااه ما أغباني وما أغبى تفكيري ! خاطبت نفسي ( يجعلك الا ايش يا نور . دحين من صدقك انتي بتجلسي قدام الرجال تمتحنيهو وتسأليهو عاااادي ؟! من متى الجرأة دي يا بنت قدك ايام المدرسة كنتي ما تتجرئيش تسألي مُدرسة عن درس مافهمتيهوش ! دحين بتفعلي نفسك الجريئة ! اهااا الان افتهملي ابي ليش وافق عشان داري بي داري ببنته ما بتعملهاش ويمكن الان متوقع اني ارجع اقله خلاص يا بابا بطلت كنت الا اضحك معك . امممم يعني هذي فكرتك عني يا حضرة بابا وهذا اللي تشتيهو انت لكن لا تراجع لا استسلام الى الامام الى الامام )
عند هذه الجملة تحديدا دخلت أختي ( لا حول ولا قوة الا بالله . قدك تحاربي . عادو ماجاش الرجال وعادنحنا مش بكرة مو قدك تفعلي بروفات ) طبعا هي كانت تتحدث وشفتها العليا ملتوية إلى الأعلى أو ما يُسمى ( الشمقة ) وهي سمة بارزة في بيتنا اذا لم يعجبنا أمر ما .
( ها وايش تحسبي انتي . طبعا معركة اكون أو لا أكون على قولة داك اللي ناسية اسمه دي الساع . لازم استعد بكل ما أوتيت من قوة وجهد ومال ورجال وعتاد .. اوووه شكلي اندمجت ) في الحقيقة الإضافة الأخيرة كانت متعمدة لأستشعر مزاج أختي التي كان يبدو عليها الانزعاج تماما .
( طيب يا مندمجة دحين كيف اقنعتي ابوكي ؟ قلي أخوك انو بعدما اخدتك للغرفة كان شكله معصب ع الآخير لو سيّبه انو كان اجا هبالك كفوف ليوم الكفوف لما يورم وجهك . وفجأة بكل بساطة يوافق ولا كأنه في شي حصل ؟ قولي يختي علميني يمكن اقدر اسوي زيمك لما قدني اشتي حاجة )
كان في صوتها ليس فقط الفضول بل كان هناك أيضا الغضب والشعور بالقهر.. نعم لقد كانت غاضبة لأنها لم تستطع فعل ذلك إذ أن خطبتها تمّت ( عمياني) ولم ترَ وجهه إلّا يوم عقد القِران وكانت الصدمة أنه لم يكن يشبه الصورة التي أعطتها أمه لها بل حتى تبدو وكأنها لشاب أصغر منه .
إضافة لأنها لا تعرف عنه شيئا سِوى ما قالته عنه أمه من أدبه وأخلاقه وخجله .. فلا تواصل واتصال بينهما بسبب رفضه هو لذلك رغم عقد قرانهما !
حزنتُ عليها كثيرا وشعرتُ بالندم لفرحتي ولحديثي عن موافقة أبي بكل تلك الحماسة .
أجبتها وأنا أحاول جعلها تضحك ( ولاشي يا ستي سحرت له .. سويت له عمل شخاطيط يعني وبس )
رفعت حاجبها الأيمن وهي تُحرّك يدها في الهوا وهذه علامة على أن صبرها قد بدأ يتلاشى وأن التصرف التالي سيكون ليدها .
( يختي دلا مالك اضحك معك . ولا شي والله اجا لعندي يقلي ليش تشتي تشوفيه ورجع قلي خلص بخليك تشوفيه وبس )
لم يبدُ عليها الاقتناع لكنها أرجعت رأسها إلى الوارء رافعة حاجبيها الاثنين دلالة على التشكيك ثم خرجت من غرفتي .
عُدتُ للتفكير في خطتي ووضع التجهيزات الأخيرة لها حتى أنني لم أستطع تناول الغداء فتفكيري المشغول ( سدّ نفسي) .
عصراً جاءت أخواتي المتزوجات طبعا فقد هاتفتهن أختي لتعلمهن بما فعلته نور من ثورة .. وبين تعجب وممانعة وعدم تصديق وتشجيع ودعوات بتسهيل الأمر عليّ ، انقضى اليوم وعُدن إلى منازلهن مع التأكيد على عودتهن في اليوم التالي لمشاهدة المعركة ونتائجها .
عُدتُ للبقاء في غرفتي وأنا أردد لنفسي ذات الكلام هل سأستطيع ؟ فجأة تذكرت كلام ( بتوع التنمية البشرية) وقررت أن أُشجّع نفسي بنفسي ( نور انتي قوية يا ليدة مالك من خبرهم إنك ما تسويهاش . انتي شجاعة وجريئة وبتنفذي خطتك وبتطيريه وابوكي ما بيزعل ولا بيقدر يغصبك )
حالما انتهيت من هذه المحاضرة الداعمة شعرت بأنني أصبحت شخصا آخر لكن ماهي إلا ثوانٍ حتى عدت لحالتي الأولى ( شلوكم الجن يا بتوع التنمية عادو حتى ما مشتش ساعة من الخبر )
قررت النوم مبكرا كي لا يأخذني التفكير إلى نواحٍ قد تدفعني إلى إلغاء ما قررته ونويته .. لكن هيهات مني النوم .
صباحا وبعد معاناة طيلة الليلة الماضية استيقظت من نوم المُرهق الذي لم يتعدى الثلاث ساعات ، لأجد أختي تعد أصناف الحلويات والمعجنات .. تبّا لِمَ كل هذا وكأن الأمر سيتمّ فعلا ! ثم قد يكون من محبي الأكل فتعجبه المأكولات ( فيتنح ومايرضى يتزحلق) تبا لكِ .
لم أحادثها. وأنا أتناول إفطاري في صمت لشدّة الصداع الذي كان يعصف برأسي حتى جاء أخي ولأول مرة أوافقه في الرأي إذ قال مخاطبا أختي ( كل ذه منشان الغريب وانا أشحب وينفطر قلبي على حبة كيك ولا بيتزا تقولي مابيش طافة مش فاضية صلح من نفسك ! امرك لله من اخت بس )
طبعا هي لفرط انشغالها لم تُعره اهتمامها فقمت أنا بالالتفات إليه محاولة مواساته و إظهار دعمي وتأييدي له .. لكنه بدل أن يقدر لي ذلك صاح قائلا ( العروسة هنا . ماشاءالله لك نفس تاكلي يا شيخة . ابي ماقدر ياكل الصبح قلي والله اننا قلبي مشغول من اللي بيحصل وانتي تعبي ولا همك )
حينها تأكدت أن هذا الولد لا فائدة من معاملته بحنان .. أنهيت طعامي الذي لم أتبين ماذا كان ، وخرجت من المطبخ راكضة بعد أن رميته بفوطة التنشيف .
كان أول ما فعلته للبدء في تنفيذ هجومي هو الذهاب لصديقتي بنت جيراننا لأستعير منها شيئا يلزمني في خطتي ، بعد استغراب وتساؤلات عن السبب وافقت وأعارتني إياه .
عُدتُ بعدها إلى بيتنا متوجهة إلى مكتبة أبي حيث كتبه القديمة والتي أغلبها دينية وتاريخية وأخذت بعضا منها وتوجهت إلى غرفتي سريعا قبل أن يراني أخي الذي كان يتجوّل في البيت بحثا عن شبكة النت اللعينة .
دخلت غرفتي وبدأت في قراءة تلك الكتب والتي قرأت بعضها منذ زمن وقد نسيت أكثر ما فيه ، والأخرى الجديدة تماما عليّ .
كانت فكرتي أن أكشف عدم ثقافته وسطحيته أمام أبي وهو ما سيجده أبي عذرا مقبولا .. فهو لن يقبل أي عذر من أعذاري السابقة ، لكن إن بيّنت له مدى تفاهته وضحالة معلوماته التي كنت -ولا أعلم السبب- متيقنة منها واثقة كل الثقة أنها ستكون أدنى بكثير من ثقافتي المتواضعة بالأصل .
انقضى الصباح وأنا أقرأ .. بعضه أستوعبه وبعضه يصعب عليّ فأشعر بالراحة إذ طالما لم أفهمه أنا فبالتأكيد لن يفهمه هو .
( نور مالك مصممة انو متنح ولا فاهم شي ؟ يا بنت ليكون إلا مثقف وماشاالله احسن منك ومن عيلتك كلها وتحنبي يا حبوبة ) هكذا خاطبت نفسي لكنني لم أدع ذلك الخاطر يسيطر عليّ مطلقا وخرجت من الغرفة مسرعة وكأنني أهرب منه .
ما تلى ذلك كان أمرا روتينيا ؛ عاد أبي شاهد الأخبار السيئة تناولنا الغداء وذهب كل إلى غرفته كالعادة .
عصرا جاءت أخواتي حسب الاتفاق وكلهن حماسة وترقب مما زاد من قلقي واضطرابي الذي كنت أحاول أخفيه فيأبى إلّا الظهور في نظراتي الزائغة وبرودة أطرافي وشرودي وأنا بينهن رغم أن الحديث كله كان عني !
كان الموعد عند السابعة مساءً وكلما تحركت عقارب الساعة نحوها شعرت بأنني أريد الهرب إلى أي مكان ريثما ينتهي اليوم أو ما تبقى منه فأعود وقد رحل ذلك الضيف الثقيل المزعج .. آه كم بتّ أكرهه أكثر !
قبيل السابعة ببضع دقائق دخلت غرفتي لأبدأ في الاستعدادات الأخيرة للمعركة المصيرية .. وعند السابعة تماما قُرع جرس الباب . اهااا منضبط في مواعيده أمر جيد يُحسب له ( أووووص يا بنت جالسة تعددي ميزاته يا هبلة ) خاطبت نفسي بحدة وأنا أنهي آخر شيء من تجهيزاتي .
دقائق جاء أخي يطرق الباب ليعلمني بوصول الضيف .. فتحت الباب سريعا لأخرج وكأنه واجب أريد الانتهاء منه بأقصى سرعة ..وجدت أخي ينتظرني قريبا من باب غرفتي حالما رآني التفت إلى الناحية الأخرى قائلا ( لوسمحتي كلمي نور تخرج من الغرفة الضيف اجا ومستعجل معه شغل بعد ساعة ) كِدتُ أن أقع من فرط نوبة الضحك التي انتابتني فأخي العزيز لم يتعرف عليّ بسبب ما كنت أرتديه ( يا أهبل اني نور ما تستضيش ؟ امشي خلينا نشوف ده المستعجل ) كانت ملامح الدهشة التي غطت وجهه من الأشياء التي لا أنساها كلما تذكرت قصة هذا العريس ( نوووووور ! ومالك كذه تدعششتي يختي ! ليش لابسة كذه )
أشرت إليه بأن يصمت قبل أن يصل لمسامع أخواتي اللاتي كن قد انتقلن لغرفة قريبة من غرفة الضيوف لمتابعة المعركة أو المباراة على حد تعبيرهن .
تحركت ماشية كي يفهم بأن النقاش انتهى .. هز رأسه علامة الاستسلام وكأنه يقول ( الله يعينو على ذي المجنونة ) وهي العبارة التي كررها الجميع حتى بتّ أراني مجنونة فعلا !
عند اقترابي من باب الغرفة شعرت بأن قلبي سيقفز من قوة وسرعة ضرباته .. توقّفت للحظات أمام الباب الذي فتحه أخي وسبقني إلى داخل الغرفة حتى سمعت صوته يناديني لأدخل .. و دخلت .
لم أكُن بالقصيرة لكنني شعرت حينها وأنا أمشي قاطعة المسافة ما بين باب الغرفة والكرسي الذي سأجلس عليه أنني بطول أحد السنافر !
حتى المسافة طالت وامتدت لدرجة أنني تخيلتها أطول شارع في مدينتنا !
أخيرا وبعد عناء وصلت إلى كرسي بعيد عن مرمى العدو ، وجلست وأنا أعطيه ظهري فلو جلست مواجهة له فكل استعداداتي ستذهب أدراج الرياح .
حالما جلست شعرت بحركة قريبة مني واذ بأبي يقترب مني وفي عينيه نظرات استغراب بل هي أقرب للغضب المكبوت ( مو ذه اللي لبستيه ؟ من أيحين تلبسي كذه ؟ )
أجبته محاولة السيطرة على ارتعاشة صوتي ( مالك يا ابي كيف تشتيني البس يعني ؟ بعدين انا اصلا منقبة يعني عادي )
( منقبة مش مدعششة ! جلباب من الراس لما الرجول عيونك ما تبانش وجونتي ! الراجل واجي يخطب مش تقرأي عليه تخرجي له جني ! وبعدين مالك مقفية منه كذه ! متحامقة منه )
( لو سمحت يا أبي خليني على راحتي الله يخليك )
للأمانة رغم خوفي وارتباكي كدت أن أضحك وأنا أشعد ببوادر النصر تلوح في الأفق .. فأن يتضايق أبي من ذلك معناه أن ذلك الثقيل سوف يتضايق أيضا وربما يخاف من دعششتي وهو المطلوب والغرض المراد من هذا الرداء .
عاد أبي إلى مقعده وهو يحاول أن يلطف الجو بمحاولة تبرير جلوسي البعيد وعدم التفاتي له وذاك البغيض يضحك قائلا ( لالا عادي والله طبيعي يا عم ) عم ها ! قد صار عمك يا هذا ولم تنجح بعد في الاختبار ! سنرى سنرى .
خاطبني أبي ( هيا اسأليه يا بنتي اللي تشتي لانو معه عمل ويشتي يمشي سريع )
طبعا أبي العزيز كان متوقعا أن أسأله تلك الأسئلة التي سبق ورددتها علث مسامعه وهي أسئلة طبيعية معتادة لكنه لم يكن يعلم بِمَ تخطط نور !
فتحت فمي لأتكلم لكني لم أسمع صوتي ! حاولت أن اتنحنح لا فائدة ، تعمدت أن أكح حتى الكحة لم يكن لها إلّا صوتا ضعيفا واهيا ! يا الله أين ذهب صوتي ماذا حدث ؟ كيف سأسأله الآن ؟ يا إلهي ساعدني .
سمعت صوت أبي يناديني ( نور مالك ايش جرى ؟ هيا تكلمي يا بنتي قلنا لك الراجل مستعجل )
آه يا أبي صوتي اختفى ذهب مع الريح تلاشى واندثر سمعت صوت ذاك الثقيل ( ماعليش يا عمي طبيعي خليها على راحته وممكن اجي يوم تاني حتى لو تحب تكون وقتها بوضع احسن )
ماذا ؟ يوم آخر ! خاطبت نفسي ( قصفك مله قصفك يوم تاني بدل ما تقول البنت يمكن مش موافقة عادك بتجي يوم تاني ! ايش الناس اللي بلا إحساس دي ! ياربي كيف اسوي دحين ؟ لا بي ولا بالاستعدادات والكتب والأسئلة اللي جهزته وامتحانات الإملاء والخط والقراءة اللي كنت ناوية اعملها له وكله كوم والخيمة اللي تسلفته من البنت نعم عشان افجعه اني متشددة ! بجلس اراعي ليوم تاني وقلق وتوتر وتحضيرات ومدري ايش ! اساسا ما اظنش ابي بيرضى يعطيني الفرصة دي مرة تانية .. يعني لو اجا مرة تانية بيكون عشان يتمموا الخطوبة واكون تدبست رسمي .. لااا يا ربي ) لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنتحب والغريب أن صوتي كان واضحا مسموعا ! لقد عاد صوتي لكن بعد أن أحرجني ونسيت معظم الذي كنت سأقوله وفقدت كثيرا من شجاعتي المصطنعة بالأساس .
سمعت صوتا يناديني ( نور .. نور كيه لو سمحتي اهدئي )
مَن هذا المتحدث ؟ إنه هو يناديني أنا ! تبّا لك كيف تجرأت ؟ لم أتوقف كي لا يظن أنني سأسكت لمجرد طلبه ( مالت عليك)
مرة أخرى أسمعه ( نور مله خلص يكفي .. لوسمحتي قطعتي قلبي يا بنت على ايش تبكي ؟ ايش حصل منو زعلك ؟ مش موافقة خلص عادي مش غصب يا بنت الناس )
ماذا؟ هل ما سمعته كان حقيقة أم هواجس صورها لي خيالي ؟ هل قال بأنني اذا لم أوافق فالأمر عائد لي ؟ وأمام أبي الذي كان مصمما على إتمام الأمر ولو رغما عني والآن لن تبقى لديه حجة ! يا الله كم أنت لطيف بأمتك الضعيفة نور !
لكنني لم أكد أفرح تماما حتى سمعت صوت أبي ( ماعليك منه . دلع بنات ونور بالدات تبكي ع الفاضي والمليان . انا ابوها وادرى بمصلحته )
( لالا يا عم الزواج مافيهوش انا ابوها وادرى بمصلحته يا إما توافق باقتناع ولا خلاص )
اوووه يبدو أنني ظلمته وظننت فيه شخصا سيئا لكن الواضح أنه جيد ومحترم . تفاجأت من نفسي كثيرا إذ تبدل رأيي فيه في دقائق ! حدثت نفسي ( ويييه اعقلي مو قدك تفكري ! مش عشان كلمتين قالهم قدك تقولي عنه تمام ومحترم ومدري ايش ! اهم شي ابوكي ما يغصبك الان انك تسمعيه موافقتك .. الله يستر لاااازم افحط من هنا قبلما يفعلها )
قررت التحرك والخروج سريعا لكنني حالما وقفت سمعت ذاك الشخص يقول ( نور لحظة لو سمحتي بس اشتي أسألك .. ممكن تجلسي شوية )
ماذا ؟ لقد انقلب السحر على الساحر وبدل أن أسأله سيسألني هو ! سمعت صوت أبي ( اجلسي يا بنت اسمعيه ايش بيقول )
على مضض وبالإكراه جلست مرة أخرى لأسمعه يقول لي ( انتي نور اللي كنتي تدرسي بكلية الآداب وتخرجتي من سنتين وكنتم شلة بنات اربع مجانين ولا تخلوا حد بالكلية إلا وتعايبوا وتضحكوا عليه حتى العميد )
وافضيحتاه ! لقد أفرد سجلي الإجرامي كله أمام أبي الذي تخيلت وجهه الآن وتعابيره الغاضبة ولونه المحمر غيظا وإحراجا . يا لي من تعيسة بائسة وقعت في شر أعمالي أردت أن أُحرجه أحرجني هو !
أخي والذي كان صامتا طوال الجلسة نطق أخيرا وليته لم ينطق ( اهيييييه يا نور طلعتي مصيبة حتى خلق الله ما خليتي لهم حالهم .. قول قول ايش عاد باقي )
أردف ( باقي انهم رغم كذه كانوا متفوقات ومؤدبات محد قد اشتكى منهم او قدر يتكلم عليهم .. جنانهم كان بحدود المعايبة وبس )
ذُهلت ! ورب الكعبة ذُهلت ! من هذا الذي يعلم كل ذلك عني وعن شلتي المجنونة وتصرفاتنا ؟ بالتأكيد هو أحد زملائنا .
سأله أخي مجددا ( وانت كيف عرفت هذا كله كنت زميلهم يعني )
( لا انا كنت سنة رابعة لما كانوا سنة أولى وتخرجت وتعينت معيد بالكلية وكنت واحد من ضحايا تعليقاتهم بس ما عرفوا انو انا سمعتهم )
يا ويلي ! ونال من ألسنتنا التي لا ترحم ! هل جاء لينتقم أم ماذا ؟! قررت أن أراه ربما أتذكره .. اعتدلت في جلستي لأكون بمواجهته ورفعت عيني التي كان الخمار يغطيهما وبالكاد أرى أمامي .. لم تكن الرؤية واضحة تماما لم أتذكره أو بالأحرى لم أعرفه لأتذكره .
لاحظ التفاتتي له فقال ( ها يا نور عرفتيني . انا مؤمن اللي كنتم تعايبوا على نظارتي .. وانتي بالذات كنتي تقولي كاسر لي راسي بنطلونه الأصفر زي الموزة )
اهااا الأستاذ مؤمن أو ( الأستاذ موزة) الذي لم يكن يمضي يوم من دون أن نلوك سيرته بألسنتنا .. يا الله إنه العقاب الإلهي لقد جاء به لينتقم مني !
صاح أخي ضاحكا( وانت مله تلبس بنطلون اصفر ! عدموا عليك الألوان )
اشتركا في الضحك بينما أنا أرتجف خجلا وخوفا من أبي الذي لم ينطق بكلمة واحدة منذ بداية مسلسل الفضايح .
التفت إليه مؤمن ( مالك يا عم ساكت ! تتخيل اللون الاصفر .. بس خلاص قد بطلت البس بنطلونات صفرا حولت فسفوري .. امزح امزح .. قد تعلمت يا نور )
وما شأني أنا بك ( مالت )
وجّه خطابه لأبي مجددا( بس يا عم الصدق وللأمانة أشهد انك عرفت تربي .. هو ماعدا اللسان ولا كله تمام .. حتى ذه عادي هم البنات كلهم ذه شغلهم )
ومن طلب شهادتك يا موزة . أردت أن أسأله وما الذي ذكرك بي بعد سنتين من تخرجي ، لكني وجدت الإجابة قبل حتى أن أفكر كيف سأسأله .. إذ سمعته يقول موجها لي حديثه( لكن من متى قدك تلبسي كذه يا نور اقصد الخيمة ذي والجوانتي عادك اجيتي قبل اسبوع الجامعة عشان حفل التخرج اللي كان بالكلية وكنتي لابسة نقاب عادي )
اهااا الآن حصحص الحق . لقد رآني قبل أسبوع وتذكرني .. يا لهذا الحظ السيء الذي يلاحقني .
وقفت وأنا أنوي الانصراف منهية المقابلة التي لم تُثمر بل جاءت على رأسي أنا .
جاءني صوته مرة أخرى ( نور .. صدقيني مش زعلان منك ومن صديقاتك وتعليقاتكم عليا .. قد نسيت اصلا فلا تفكري اننا اتقدمت لك عشان مثلا بنتقم منك او الافكار التافهة ذي لا أبدا .. قسما بالله مش كذه .. عشان كذه ارجوكي تفكري خذي وقتك لا تستعجلي انا مابضغط عليك واقلك اشتي رد بخلال اسبوع او اتنين بس ما يزيد عن شهر لأني راجع مصر عشان الدراسة واجيت بس زيارة ومعاملات في الجامعة .. فكري على أقل من مهلك لا تتسرعي برفض او موافقة ..) ثم وجّه كلامه لأبي منهيا المقابلة ( يللا يا عم انا بمشي الان و أول ما تعطيك الآنسة نور ردها بلغني على طول مهما يكون ولو اني اتمنى ما تخيبي أملي )
خرجت لا بل طرت .. نعم كنت أطير لا أسير حتى وصلت غرفتي وماهي إلا ثواني حتى لحقتني أخواتي يباركن وكأنني قد أعطيت ردا بالموافقة .. ثم بدأن بلومي وتقريعي على ما كنت سأفعله معه فهو من وجهة نظرهن ( مايستاهلش ) .
اليوم مضى على ما حدث أسبوع وأنا أفكر ولم أتوصل لقرار ..هل أقبل أم أنهي الأمر كسابقيه ؟
لكن الغريب حقا في الأمر هو أنني لازِلتُ أُفكّر !
هل يعني هذا أنني .... ؟!
أفتوني في أمري ؟ هل أقبل أم ماذا ؟


شارك الموضوع ليراه أصدقائك :

هناك تعليق واحد:

  1. قصة جميلة جداً لقد اعجبت بهاكثيراً .
    بإعتقادي على الكاتبة ان تفكر كثيرا في مسألة الزواج فهو مشروع العمر ويحتاج دراسة.

    ردحذف

 
إتضل بنا | فهرس المدونة | سياسة الخصوصية
جميع الحقوق محفوظة لموقع شبكة أجداور
Created by Maskolis Published by Mas Template
powered by Blogger Translated by dz-site